قالوا قديما أن شعرة دقيقة تفصل بين العبقرية والجنون؛ فلما تسبح شعوب عالمنا العربي في بحر الجنون، وهي التي لم تصل يوما حد الوعي أصلا فضلا عن العبقرية؟!

فالشعوب العربية سارت خلف كل ناعق، ومنحت نياشين البطولة للجميع، فكل من ركب السلطة عظمت له، وكل من دخل دائرة الأضواء رفعته فوق أكتافها.

هتفوا لمندوب السلطنة العسكري الألباني محمد علي، وناشدوه بل وتوسلوا إليه أن يحكمهم، كما هتفوا لأبنائه من بعده؛ لكن هذا لم يمنعهم أن يقاتلوا مع الإنجليز ضد الحكم العثماني، فاعتبروا الإنجليز الذين يختلفون معهم في الدين واللغة أصدقاء، والعثمانيين الذين هتفوا لهم بالأمس، وشاركوهم الدين والإمبراطورية أعداء!

تساوى مصطفي كامل الذي فضح الإنجليز في واقعة دنشواي، ونادى بعودة الخلافة، بأحمد لطفي السيد الذي مدح الإنجليز في كل المحافل، وناشدهم البقاء بمصر لإنقاذها من المحتل العثماني، فكلاهما رمز شعبي، وكلاهما من ذوي الشأن الوطني!

هتفوا لعرابي وهو يطالب لهم بالحرية، كما هتفوا لملكهم توفيق الذي استنجد بالإنجليز والفرنسيين ليكسروه، وينفوه خارج وطنه الذي عاش يدافع عن ترابه، وعاد من منفاه دون أن يستقبله أحد، ليموت وحيدا في وطنه وبين أهله!

هتفوا للواء محمد نجيب، كما هتفوا لمن انقلب عليه، وكانوا من قبل يهتفون للملك فاروق ويلقبونه بالمؤمن!

جعلت هذه الشعوب من ربيب العرش العثماني في مصر أحمد شوقي أميرا للشعراء، ومن محمود سامي البارودي رب السيف والقلم ومن حافظ إبراهيم شاعر النيل، الكل شاعر والكل رائع، وكل يحظى بلقب يتداوله الشعب العربي ويلوكه؛ لكن في النهاية الأمير هو الأمير.

هتفوا لناصر بائع صكوك الكرامة والعزة والاستقلال، حتى وهو يتجاهل quot;أم الرشراشquot;، ويتنازل عن إدارة غزة، ويفرط نهائيا بالسودان.

هتفوا له وهو يحدثك طوال الوقت عن استعداده لقتال quot;إسرائيل ومن وراء إسرائيلquot; دون أن يطلق طلقة رصاص على الحدود معها، إلا بعد أن نستيقظ في يوم حزين على صوت طائراتها وقنابل مدافعها ورصاص عساكرها في قلب بيوتنا!

هتفوا له وهو يتنازع السلطة مع صديق عمره المشغول بحب quot;برلنتيquot;، وهتفوا له وهو يقتل أبناءهم في اليمن وسيناء بسوء تخطيط، وثقة فيمن لا يستحق الثقة في يونيو عام 1967.

ثم هتفوا للسادات حتى وهو يضع يده في يد قتلة أبنائهم باسم السياسة والصالح الوطني، وهتفوا لمبارك من بعده، وللدكتور محمد مرسي، ولوزير الدفاع عبدالفتاح السيسي؛ لكن للتاريخ كل هؤلاء هتف لهم الشعب؛ لكن السيسي يفوقهم أن من الشعب من لم يكتف بالهتاف فرقص له رقصا يستحي منه العذارى على أنغام quot;تسلم الأياديquot;.

وبرغم أن المساحة واسعة بين المنطق واللامنطق، بين الحق والباطل، بين العلم والجهل، بين الأمانة والخيانة، والخلق والرذيلة؛ إلا في عرف هذه الشعوب العربية العبقرية، فكل شئ يخضع للهوى، أو ما يسمونه جهلا وجهة نظر.

فالكل من حقه أن يدلي بدلوه، ويقول برأيه، فماذا يمنع أن يقول الكوفتجي في الفيزياء، والعسكري في البلاغة، والاقتصادي في الرياضة، والرياضي في التكنولوجيا، والفلاح في الهندسة، والطبيب في الكفتة؟

وحين يشيع الجهل، لا يعرف أحد فارقا بين الهوى والرأي، ولا يعي تابع من تابعي الهوى أن الرأي لا بد أن يكون بعلم، وإلا فلنستبدل قوانين أرشميدس وفيثاغورس، بقواعد quot;جادquot; و quot;أبوشقرةquot;.. أو نخضع قواعدأبو بكر الجرجاني (مؤسس علم البلاغة)، لما يهمس به الوسيم عبدالفتاح السيسي، وبالمثل نمضي لنأخذ من شوبير ومدحت شلبي نبوءات في علم النانو تكنولوجي لنضرب بها quot;أدلى جوردون مورquot; على عينيه.

وبمنطق المجاذيب صدقنا أن السادات باع القضية الفلسطينية حين عاهد الصهاينة؛ لكن الملك عبدالله آل سعود الذي قدم العرب جميعهم على طبق من فضة للصهاينة تحت مسمى مبادرة السلام العربية عام 2002، والتى لم تعرها دولة صهيون أية اهتمام.. كان مسلما ووطنيا وعربيا صادق العروبة!

وبنفس المنطق هتفنا لكل ناعق من جديد، نعقت الثورة فأعلينا من صمت مبارك الذي أذاقنا الذل أكثر من 30 عاما، ثم علا صوتها فهتفنا لها، وكررنا شعاراتها، وباسم الثورة رفعنا رموزها، وعلى صدورنا وضعنا صور وائل غنيم والدكتور محمد البرادعي، وأنتجت الثورة انتخابات أتت بأول مجلس شعب حر منتخب، وكذلك أول رئيس، كان هذا في 25 يناير 2011 وما تلاها.

وباسم استكمال الثورة وصمنا كل هؤلاء بالخيانة، ولم يعد شريفا ثوريا نقيا طاهرا مصريا أًصيلا سوى شخص واحد فقط، ورث مصر من الملك فاروق قبل 62 عاما، هو العسكري، وباسمه هتفنا أيا ما كان، وعلى رقابنا كم سار حذاؤه (البيادة)!

وبرغم أن هذا المآل يسقط كل معنى لمفهوم اسمه المنطق، إلا أننا لم نزل نهتف، ونرى أن صمت العسكري حكمه، وقوله رؤية، ورؤاه نبوءة، وحياته رسالة، وقتاله ضرورة، وقتلاه كفرة، ودماؤهم نجسة، وهم جيفة نتنة، ومآلهم في الحياة التعذيب والسحل والسجن، أو القتل، وبعد الممات النار!

هو القديس أو هو الرسول الذي ابتعثه الله من دون البشر، لينقذ قلب العرب النابض مصر، من براثن الإسلاميين الفجرة تجار الدين، وهو الحاكم بأمر الله، والذي حكم بالنار على كل من عارضه حيا وميتا!

تجارة الإسلاميين بالدين لتحقيق بشرى النبى الخاتم صلوات ربي وتسليماته عليه، الذي لا ينطق عن الهوى، بخلافة آخر الزمان كفر وخرف؛ وتجارة العسكري بنفس الدين ليغتصب حكما ويقتل أنفسا ويسيل الدماء أنهرا وحي ونبوءة حق!

وهنا وبعيدا عن المنطق يولد منطقا.. الموظف الحكومي فقط من يعرف الوطنية والعدل والدين، فلا تصدق وطنيا إلا إذا كان عسكريا، ولا فقيها إلا إذا كان أزهريا وتحديدا ممن رضيت عنهم الدولة فعينته مفتيا للديار، ولا تصدق أن هناك عدلا إلا تحت قبة دور القضاء العالية، وإذا وقفت ببابهم فتذكر.. إنهم شامخون!

وإياك أن تسأل إن كان ذلك كذلك، فلما لا تستتب ممالكنا، ولا يرضى أهلنا، ولما تتساقط الجثث، وتسيل دماؤنا، فنحن قوم يحكمنا الخبل، وهذه أسئلة لا يسألها غير من بقي فيه بقية من عقل يطالب بموجبه استحضار شيئا منسيا اسمه المنطق.

رئيس منتخب يرفع دعوى قضائية ضد من يهزأ منه ليل نهار فهو عدو للحريات.. و وزير ينتقد حوارييه، فيصير عميلا وماسونيا!

رئيس منتخب يقتل في عهده 28 مواطنا، فيحاكم في مقتل بعضهم، ونظام بأكمله يشرعن لسيلان الدماء أنهرا، فلا يحاسب منه أحد!

رئيس يأخذنا لأمريكا لتمنحنا كل عام أكثر من مليار دولار معونة فنصفق له، وآخر يأخذنا بعد أن نملأ جيوبنا من مال الشحاتة إلى روسيا التي هجرناها قبل ربع قرن، فنصفق له أيضا.

مساحة شاسعة للغاية كما أسلفت بين المنطق واللامنطق؛ وينقذنا من الخلط بينهما، والإلتباس، شيئا واحدا.. أن نفرق بين الرأي والهوى، وأن نفطن إلى أن الرأي لا يكون إلا بعلم، والعلم لا يأتي من الهوى.

فمن يأخذ برأي عطار في مرضه، كمن يهتدي بدجال ليقيه سوء الخلائق، وشر أيامه القادمات، فالأول لا يشفى والثاني لن يتحرك خطوة للأمام، وضال من نصح والأضل من استنصح؛ لكننا قوم نأبى إلا أن يحكمنا الخبل، ولما لا؟ وقد بات عندنا مؤسس علم quot;الفكاكةquot; الذي أخرج للأمة من يصنع من فيروس لا يرى إلا بأدق الأجهزة، إصبعا من الكفتة!

كاتب صحفي ومحلل سياسي