لازالت مبادرات السلام متواصلة بين قيادات إسرائيلية ومختلف دول الشرق الأوسط لصنع قرارات شجاعة من أجل السلام والمحبة والتعايش.
كانت هناك فى السنتين الماضيتين عدد من اللقاءات والمؤتمرات والإتفاقات المبرمة بين زعامات الأديان فى دول الشرق الأوسط لاسيما الدول العربية المختلفة مع قيادات إسرائيلية دينية ذات نفوذ وتأثير فى مراكز صنع القرار. وآخر تلك المبادرات الرائعة هى مبادرة القس أندرو وايت رئيس مؤسسة الإغاثة والمصالحة فى الشرق الأوسط من السنة الماضية لجمع القيادات المهمة معا فى إسرائيل والعراق وإيران، القيادات ذات النفوذ والتأثير فى القرارات السياسية والدينية لرمزيتها القيادية من ذات الخبرة والباع والمعرفة والتجربة. وكان الإعداد للمؤتمر كبيرا متواصلا ومنذ زمن حتى تمّ تحقيق ذلك حقيقة فى آذار الحالى بين زعماء الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وبمشاركة شخصيات عالمية وأعضاء برلمانات ولوردات ... وتحت رعاية (برنامج الدكتور نعيم دنكور للتوحيد العالمى) وكفالته وتمويله، وتحت شعار (إله واحد وعالَم واحد، نعمل سوية من أجل تحقيق السلام). وفعلا كان النجاح حليفها كما كان النجاح حليف ما سبقها من مؤتمرات مع مختلف دول الشرق الأوسط فى العامَين المنصرمين لأن النوايا سليمة والمقاصد شريفة كما أنّ القادة يمتلكون الشجاعة والإرادة والعزم والتصميم كما قال الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبى
على قدر أهل العزم تأتى العزائم hellip; وتأتى على قدر الكرام المكارم
وتعظم فى عين الصغير صغارها hellip; وتصغر فى عين العظيم العظائم

كانت القيادات الإسلامية تضم الطائفتين الشيعية والسنية وكانت القيادات المسيحية من مختلف الفرق والطوائف كما كانت الحاخامات اليهودية الكبيرة كذلك، القيادات ذات النفوذ الدينى والسياسى وصاحبة التجربة الواسعة فى المجالات الدينية والإجتماعية والسياسية والقريبة من صنع القرار السياسى.
كان من الطبيعى جداً، أن يطرح (القس أندرو وايت) هذه المبادرة الرائعة حيث عرف بتاريخه الحافل من أجل صنع السلام فى الشرق الأوسط ومشهور عنه اتفاق الإسكندرية العظيم قبل أكثر من عشرة أعوام ولازال تأثيره قويا ناجحا نافذا، كما عرفت عنه مبادرات أخرى تحدث عنها فى بداية المؤتمر. وأضاف قائلا إن دولة إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى يتمتع بها أصحاب الديانات المختلفة بحرية كاملة ولهم حقوق المساواة فى إسرائيل التى درس فيها وتعلّم فى جامعاتها ويرى المسيحيين فيها ينعمون بالحرية الكاملة لذلك فهو يواصل صنع السلام معها. لكنه أضاف: فى الدول الأخرى كالعراق هنالك يوميا الدماء تسيل والقتل والتهجير للمسيحيين حيث كان عدد مسيحيي العراق مليوناً وثمان مائة ألف بينما أضحى اليوم أقل من نصف مليون مسيحى. هذا يعنى أن ثلثى المسيحيين فى العراق قد قتلوا أوهجّروأ أو تمت تصفيتهم بحيث بقى أقل من الثلث فقط ولازالت العمليات الإرهابية على الكنائس وتهديد المسيحيين لإخراجهم من وطنهم. وأضاف قائلاً : لو أن الباحث نبيل الحيدرى يكتب ويحاضر عن يهود العراق فى بغداد - ما يكتبه الآن ويحاضره عن تاريخ يهود العراق وأمجادهم وشخصياتهم وهو مقيم بلندن-، لأهدروا دمه وقتلوه فى بغداد بسبب ثقافة الكراهية لليهود فى العراق حيث لازالت قائمة سائدة مترسخة حتى عند المسيحيين وكنائسهم بينما الحقيقة أن السيد المسيح كان يهوديا. والقس أندرو يسعى إلى أن يربّى المسيحيين فى كنيسته على محبة اليهود ومحبة الجميع.
تحدث الكثير من علماء الأديان الثلاث عن المشتركات بين الأديان الإبراهيمية من اليهودية والمسيحية والإسلام حيث جميعها تؤمن بإبراهيم وهو موجود فى الكتب السماوية الثلاث التوراة والإنجيل والقرآن. كما قرأ بعض علماء المسلمين الآيات القرآنية (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان...). وكذلك قوله تعالى (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم، لانفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون). وغيرها من الآيات الكريمة حيث الأديان الإبراهيمية الثلاث تشترك فى الكثير من المبادئ والقيم والعقائد والأحكام. إن هذه الأديان تؤمن بالله سبحانه وتعالى الخالق المدبر (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) وتؤمن بالحياة الآخرة فى الجنة والنار وغيرها من المفاهيم الدينية العامة المشتركة.
كما تحدث بعض القساوسة عن ثقافة العفو والمحبة والرحمة حتى مع الخصم عند السيد المسيح وقرأ آيات من الإنجيل الكريم بذلك تحدثت بعض القيادات الإسلامية عن مراحلها التاريخية الثلاث التى مرت بها على صعيد الواقع المعاصر حيث المرحلة الأولى الجهاد والدموية والقتل، ثم المرحلة الثانية هى الحوار والإنفتاح على الآخر، ثم جاءت هذه المرحلة وهى مرحلة صنع السلام الدائم والمحبة والتعايش التى يسعون حاليا فيها بديلا عن القتل وسفك الدماء.

إن المؤتمر يعتبر خطوة تاريخية أولى فى الطريق الصحيح إذ لا سابقة تماثلها فى التاريخ لهذا الجمع المبارك بين قيادات الأديان الإبراهيمية الثلاث فى محاولة صنع سلام حقيقى بين دول تعتبر الأكثر تأزمّاً فى الصراع والنزاعات بين دول العالم
كما تمّ الحديث بصراحة عن مختلف المشاكل والصراعات خصوصا الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وأزمات مختلفة مثل تهجير المسيحيين وبعض الطوائف فى الشرق الأوسط، ومأساة الفرهود وتهجير يهود العراق، والطائفية المقيتة فى العراق المعاصر وما يحصل فى الأنبار، حيث كانت مسألة تحريم الدم العراقى وصيانته وحرمته من ضمن النقاط التى اتّفق القادة عليها فى البيان الختامى الموقَّع من قبل المشاركين.
وكنتُ بصفتى (المشرف والمراقب على المؤتمر وتقييمه) قد بقيت أكثر من عشرة أيام فى قبرص لضمان نجاحه والإشراف على حركته والإطمئنان على انسيابه وتصحيح ما يمكن حصوله من مشاحنات وأخطاء والتباسات وسوء فهم hellip; حيث كان المجتمعون على درجة عالية من الصفاء والإكرا م والمحبة والسلام والمودة والوئام فقد رأيت العرب والإسرائيليين كلٌّ يقبّل زميله ويخاطبه بأخى الحبيب ويمزح ويضحك معه، ثمّ يتعشيان ويتنزهان معا على شواطئ قبرص الجميلة حتى أن بعض قيادات الحركات الإسلامية فى فلسطين قد خاطبت مرارا وتكرارا الحاخام الكبير فى إسرائيل الجالس جوارها فى المؤتمر بالأخ وليس مجرد الصديق.
وقد كان الإيرانيون يسيل لعابهم محبة وعشقا فى لقاء الإسرائيليين، أختيرت قبرص الهادئة الجميلة المطمئة كحلقة وصل بين الشرق والغرب لصنع السلام فى أعقد مناطق المنطقة تأزما إسرائيل والعراق وإيران لانطلاق مبادرة سلام تاريخية رائعة فى المحبة والوئام والسلام.
كان الفندق جميلا هادئا على ضفاف البحر حيث تتمشى بهدوء وروية وانتعاش وهنية ولطالما تمشينا مع مختلف الضيوف الأعزاء متداولين بصراحة وشفافية وأخوية مختلف الشؤون والشجون.
تحدثْتُ منذ زمن فى محاضرتى (خارطة الشرق الأوسط الجديد) بلندن عن خارطة صنع السلام فى منطقة الشرق الأوسط الجديد بين إسرائيل ومختلف دول المنطقة لاسيما إيران ومصر والعراق وطرحتُ مشروع رجالات الدين ذات التأثير والنفوذ فى المجالات الإجتماعية والسياسية والدينية والتى تمتلك الشجاعة والوعى والعمق والتأثير للقيام بالمبادرة. وقلتُ يومها: إذا فشل السياسيون فى صنع السلام فعلى رجال الدين أن يأخذوا المبادرة ليثبتوا أن الأديان رحمة وسلام ووئام. حيث ردّ عليّ بعضُ الحضور( أنه حلم بعيد المنال). لكنى اليوم أرى ذلك (الحلم البعيد) بدأ يتحقّق دولة بعد أخرى فى خطواته البنّاءة الأولى عند المؤتمرات والندوات واللقاءات وفيها توقيع الإتفاقات العظيمة التاريخية فى الطريق الصحيح نحو خطوات لاحقة متكاملة لنزرع بذرة خير ومحبة وسلام لمستقبل واعد زاهر يحقق لأولادنا الحياة الكريمة الهانئة.