ها وقد قال المصريون كلمتهم وانتخبوا السيد عبد الفتاح السيسي رئيساً جديداً للجمهورية، فقد حان وقت الانتقال من الانقسام إلى الوحدة، من الهياج والثورة إلى الهدوء والتعقل، من الفوضى إلى النظام، من الكسل إلى العمل والإنتاج، من التواكل إلى الاعتماد على الذات، ومن الانكفاء على الأزمات إلى مواجهتها ومحاولة التغلب عليها. لن يقبل الكثيرون ممن تخلوا عن عقولهم ووطنيتهم من أعضاء ومؤيدي جاعة الإخوان المسلمين وشركائها من جماعات الإرهاب بهذه الكلمات، ولكن من المأمول أن تكون هذه هي المباديء التي سينطلق منها الـ 25 مليونا من الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية في سعيهم لإعادة بناء مصر وبدء حقبة مجيدة جديدة من تاريخ مصر.

فاز السيسي بالرئاسة بأغلبية ساحقة، بعدما اختاره للمهمة العصيبة 96.9% من المصريون الشرفاء الذين أدلوا بأصواتهم. قبل الانتخابات، كانت هناك مخاوف لدى البعض، وأبدى عدد أخر اعتراضه على أمور معينة. كنت شخصياً أحد الذين ساورتهم مخاوف من وصول شخصية عسكرية إلى السلطة. ومازالت المخاوف تساورني لأن شخصية الرئيس الجديد تبقى غامضة إلى حد ما لا يُعرف عنها الكثير، فضلاً عن كونها قليلة الخبرة في المجال السياسي. لكن الأمر بالنسبة لي اليوم أصبح محسوماً، إذ أرى أنه يتوجب على كل من اعترض على شخصية الرئيس الجديد أن يتوقف عن المكابرة والمزايدة، وأن يحترم الملايين من الأصوات التي أيدته وصوتت له، وأن يضع مخاوفه جانباً ويمنح الرجل الفرصة.

ربما لم تكن نسبة التصويت في الانتخابات عالية بالصورة التي كان الكثيرون يتمنونها، لكن العبرة في النهاية بالنتيجة التي أسفرت عنها أصوات من ذهبوا واقترعوا. انخفاض نسبة التصويت لا يعيب الانتخابات ولا يعيب المرشحين، لكنه يعيب الناخبين. توفرت الفرصة أمام كل من يحق لهم التصويت، لكن 47% فقط منهم آثروا استثمار الفرصة، في الوقت الذي أبت فيه البقية. ولذا فمن المفترض أن يلتزم الممتنعون برأي المشاركين، ومن رفض أن يكون له صوت في الانتخابات لا يجب أن يكون لهم صوت يصدّع به الأدمغة بشعارات جوفاء رافضة للنتائج ومروجة لشائعات لن تجني مصر من ورائها إلا استمرار حالة عدم الاستقرار التي عاشتها طوال السنوات الثلاث العصيبة الماضية.

رَفْضُ نتائج الانتخابات والزعم بأنها لا تعبر عن غالبية المصريين بسبب انخفاض نسبة التصويت أمر خائب ولا تستفيد منه إلا الجماعات والفصائل التي تحارب الوطن وتستنزف إمكاناته. لم تكن الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة وحدها هي التي شهددت انخفاضاً في نسبة التصويت. الأمر شائع ويحدث ويتكرر في جميع دول العالم. لعلنا نذكر هنا أن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون تمت إعادة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام 1996 بنسبة 49% من إجمالي عدد الناخبين الذين كان يحق لهم التصويت.

انخفاض التصويت إذن لا يقلل من شأن انتخابات الرئاسة، ولا يضعف موقف السيد السيسي، ولا يؤثر من قريب أو بعيد على شرعيته الرئاسية التي نالها من دون تزوير أو إكراه للناخبين أو تأثير على رغباتهم.

تعني الانتخابات الرئاسية الحرة الأخيرة أن مسألة شرعية نظام الإخوان المسلمين الذي وصل إلى الحكم عبر انتخابات 2012 قد انتهت من غير رجعة. الانتخابات الديمقراطية التي أسفرت عن فوز السيسي بالرئاسة ألغت ما قبلها من انتخابات رئاسية. وإذا كان الكثيرون من دعاة الديمقراطية يرفضون الاعتراف بأن الشعب المصري مارس حقه في سحب الشرعية من نظام الإخوان العام الماضي، فإن انتخابات الرئاسة الأخيرة يجب أن تُخرس هذه الأصوات تماماً.

الانتخابات الرئاسية تعني أيضاً أن المرحلة الانتقالية قد انتهت. كانت فترة قاسية على مصر والمصريين بسبب الأعباء التي وضعها الإخوان المسلمون وشركائهم من الجماعات الإرهابية على عاتق كل مصري وكل جهاز من أجهزة الدولة وكل مسئول بها بدءاً من الرئيس المؤقت الرائع عدلي منصور إلى أصغر جندي بالقوات المسلحة وقوات الأمن. الأرواح التي أزهقت، والدماء التي سالت والدمار الذي حدث، والإنتاج الذي توقف، والرعب الذي ساد، والخوف الذي ملأ القلوب على مصير مصر، لم تكن كل هذه الأمور سهلة أو هينة على المصريين. أوجدت كل هذه الأمور مشاعر لدى المصريين تعجز الكلمات عن وصف مرارتها.

لذلك كانت رغبة الشرفاء من المصريين في الانتهاء من المرحلة الانتقالية مُلّحة، وكان مطلبهم في وصول شخصية قوية وحازمة إلى مقعد الرئاسة مبرراً، وكانت فرحتهم بنجاح عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية صادقة. المشاعر التي شهدتها الاحتفالات بنتائج الانتخابات داخل وخارج مصر غير مسبوقة. في الاحتفالات ترى الفرحة مرسومة على الوجوه وتدرك أن الأمل يفيض في القلوب. لم يرتب سياسيون أو عسكريون لهذه الاحتفالات، لكنها كانت احتفالات عفوية أراد بها المصريون التعبير عن رغبتهم في طي صفحة الماضي السيء وبدء عهد جديد جيد.

أبداً لن تكون المرحلة القادمة سهلة. ستكون هناك أشواك من مخلفات مرحلة الإخوان، ومن مخلفات العقود الستة الماضية التي أهدرت مقدرات مصر الحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ستكون هناك أشواك، ولكن الأفراح ستكتمل والأمال ستتحقق والورود حتماً ستأتي إن أخلص السيسي في أداء واجباته، وإن استمع لصوت شعبه، وإن أحسن اختيار معاونيه، وإن ابتعد عن اتباع مسيرة أي من الرؤساء البائسين الذين ابتليت مصر بهم في الستين عاماً الماضية، وإن فتح أبواب المجتمع، وإن أطلق الحريات، وإن لم يقمع الأصوات المعارضة الموضوعية والنقد الصادق، وإن طوّر التعليم، وإن عدّل لهجة الخطاب الديني، وإن فصل الدين عن الدولة، وإن عمل من أجل إحلال السلام المجتمعي والحفاظ على السلام الإقليمي.

المسئوليات على عائق الرئيس عبد الفتاح السيسي كثيرة، وأرجو أن يكون الرجل أهلاً لها. أتمنى ألا تتحطم الأمال العريضة للمصريين وألا تنكسر أفراحهم وابتهاجاتهم، وألا يعودوا مرة أخرى إلى عصر الدكتاتورية أو عصر الفوضى. يحسب للسيسي أنه كان واضحاً وصادقاً إلى أقصى درجة حين لم يمنح وعوداً انتخابية عنجهية تحل كل مشاكل وأزمات مصر في أيام أو شهور كما فعل غيره. كان وعد الرجل الوحيد هو العمل، وليته ينجح في عمله ومهمته الصعبة.

وصل السيسي إلى منصب الرئاسة الذي قال من قبل أنه حلم به وهو بعد صغير. وقد تحقق الحلم بتفويض شعبي نادر. فليحصل الرجل على فرصته في إدارة مصر طالما كانت هذه رغبة المصريين، وليت المعارضين والكارهين والحاقدين يمتنعون عن أن يكونوا عقبات في طريقه. السيسي قدم لمصر في الثالث من يوليو الماضي أكثر مما قدمه لها كل ساستها في العقود الستة الماضية مجتمعين. وكم أتمنى أن يجد الرئيس السيسي معونة صادقة من المصريين بالإحسان في العمل والعودة إلى الإنتاج. كما أتمنى أن يعود العالم ليساند مصر وقيادتها الجديدة. وليت من يتشدقون بالدعوة للديمقراطية في الغرب يتبعون الخطى الحكيمة والمسئولة للسعودية والإمارات والكويت في دعمهم لمصر التي تولد من جديد هذه الأيام.

[email protected]