عشت مع العديد من الزملاء الكتاب والصحفيين الفلسطينيين والعرب حصار بيروت عام 1982 طوال 88 يوما. ووثقّت غالبية يوميات هذا الحصار في كتابي ( بيروت 28& ، وعي الذات ) الذي أصدره في دمشق "الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين " عام 1983& منشورا من طرف "دار الجليل للطباعة والنشر". في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس عام 1982 بدأ خروج العسكريين والمدنيين الفلسطينيين العاملين في ومع منظمة التحرير الفلسطينية وبقية التنظيمات الفلسطينية. إخترت أنا واثنين من زملائي الصحفيين ركوب الباخرة اليونانية المتوجهة لميناء طرطوس السوري، وقبل يومين ذهبنا لتصريف ما معنا من ليرات لبنانية، وكانت الليرة اللبنانية في أوج عصرها الذهبي إذ كان الدولار يعادل ليرتين ونصف فقط. وقفنا في مكتب الصرافة فبدلّت أنا و واحد من الزميلين ما معنا من ليرات إلى دولارات أمريكية. سأل الصراف الزميل الثاني: وأنت...أية عملة تريد؟. فكّر الزميل ثوان وسأل الصرّاف: هل لديك شيكلات إسرائيلية؟. استغرب الصرّاف اللبناني هذا السؤال وردّ عليه بعصبية وغضب شديدين: ما هذا..هل جننت ؟ فأجابه الزميل بهدوء: لا..أنا اعقل بكثير من الصديقين اللذين اشتريا دولارات..أنا أريد شيكلات لأنّنا دخلنا الزمن الإسرائيلي!!. وصدقت لاحقا نكتة أو نبوءة زميلنا العاقل، إذ اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 بدولة إسرائيل دون اعتراف إسرائيل بها أو اعطائها أي حق من الحقوق التي طالبت بها، وتلا ذلك اعتراف العديد من الدول العربية بدولة إسرائيل بعضها علنا والعديد منها سرا حيث حامل الجواز الإسرائيلي يتنقل بحرية وراحة في العديد من الدول العربية بينما غالبية الدول العربية تطلب تأشيرة دخول مسبقة من مواطني الدول العربية الأخرى، أمّا حامل الوثيقة الفلسطينية أو جواز سفر السلطة الفلسطينية فهو ممنوع من دخول غالبية الدول العربية، وكذلك نظام المقاومة والممانعة البعثي السوري استمر في مفاوضات علنية وسرية مع دولة إسرائيل دون أن توافق على مطلبه الانسحاب من هضبة الجولان مع أنّه لم يطلق رصاصة على دولة إسرائيل منذ عام 1973 رغم كل غاراتها الجوية التدميريية داخل الأراضي السورية..لذلك فهو حقيقة (الزمن الإسرائيلي يشمل كافة بلاد العرب أكفاني لا أوطاني ).
ومنذ سنتين..دخلنا الزمن الداعشي،
فمن يصدق أو يتخيل هذا التمدد الداعشي حيث سيطرت خلال العامين الماضيين على نسبة من الأراضي السورية والعراقية فمدن مثل الرقة السورية والموصل العراقية وجوارهما حقيقة مدنا داعشية مائة بالمائة لا وجود فيها لأية قوى أخرى وتمارس فيها داعش سلوكياتها من قصّ الرقاب إلى السحل والإعدامات بكافة الطرق، بينما تحالف دولي من حوالي ثلاثين دولة بينها دول عظمى لم يتمكن طوال قرابة سنة من وقف تمدد داعش هذا، في حين يتفاخر هذا التحالف الدولي بألاف الغارات الجوية ضد مواقع داعش دون ان يؤثر هذا القصف في وقف تمددها وسيطرتها على كيلومترات جديدة.
وسوف يستمر التمدد الداعشي،
لأنّ مقاتليه وخليفته لم ينزلوا علينا من مجرات فضائية بل هم نتيجة بيئة حاضنة متمثلة في ثقافة وتربية طوال مئات السنين، فلماذا نستغرب أن يقوم خليفة داعش بقصّ الرقاب وقطع الرؤوس بينما لم أعثر في أي كتاب من كتب التاريخ الإسلامي على أية إدانة أو استنكار لقيام والي الكوفة "خالد بن عبد الله القسري " في زمن هشام بن عبد الملك بن مروان، بقص رقبة "الجعد بن درهم" على منبر المسجد في أول يوم من عيد الضحى عام 105 هجري الموافق 724 ميلادي، حيث خطب خطبة صلاة العيد ثم خاطب المصلين قائلا: " أيها الناس ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضحّ بالجعد بن درهم" وسحبه من تحت منبر المسجد حيث خبأه وقصّ رقبته بسيفه في المسجد أمام المصلّين. وفي زمننا العربي الحالي قبل ولادة داعش وبعد ولادتها ماذا نتوقع ان تكون نتيجة أنظمة الفساد والقمع ومصادرة كافة الحريات وسجن كل من ينتقد الحاكم حيث يستعمل إعلامه ( الذات الملكية أو الذات الأميرية أو ذات الرئيس ) قياسا على قولنا (الذات الإلهية ) وكذلك يستعمل بعض الحكام صفة (الجلالة ) التي هي من صفات الله جلّ جلاله. وأيضا الفقر والجهل حيث نسبة الأمية في أقطار "بلاد العرب دواعشي" ترقى إلى خمسة وخمسين بالمائة حسب تقارير التنمية البشرية العربية وليس تقارير الموساد و السي آي إيه..ويترافق هذا مع فقهاء السلاطين وقنواتهم الفضائية التي اقتربت من عدد (فضائية لكل مواطن ) حيث يتفرغ هؤلاء الفقهاء لتبرير كافة أعمال الحكام...لذلك فلن يتمكن التحالف الدولي من القضاء على داعش وفكرها وممارساتها فهي لا تختلف بشكل عام عن ممارسات غالبية الأنظمة العربية..فلننتظر الأسوأ فقد دخلنا حقيقة ميدانية معاشة اسمها (الزمن الداعشي ) الذي هو من صناعتنا ويصفق له علانية ملايين من شعوبنا.
www.drabumatar.com
&
التعليقات