الطرق المؤدية إلي الكفر وإن اختلفت مصاديقها فهي ترتبط جميعها في الأغراض التي يدعو القرآن الكريم إلي إزالتها ونبذها، والتوجه إلي عبادة الله تعالي بناءً علي النهج الذي شرعه والذي يتفرع علي الدعوة الخالصة من أي نوع من أنواع الشرك، ولهذا فإن ما يصدر عن اليهود لا يخرج عن كونه كفر مترتب علي مبادئ خاطئة، كما يتضح ذلك من متفرقات القرآن الكريم، ولذلك فإن الإشارة إليهم لا تبتعد كثيراً عن هذا المعني، ومن الدليل علي ذلك قوله تعالي: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتي تأتيهم البينة) البينة 1. فإن قيل: كيف يصفهم القرآن بالكفر وهم أهل كتاب؟ أقول: مصطلح الكفر الذي أطلق علي أهل الكتاب في الآية يرجع إلي عدم تصديقهم بالدعوة النبوية من جهة، وإلي كتمان ما في كتابهم وتحريف بعضه من جهة أخري، وهذا لا ينطبق علي جميع أهل الكتاب، وإنما علي بعضهم، وقد يفهم ذلك من التبعيض الوارد في قوله: (من أهل الكتاب) في الآية آنفة الذكر، وقد يؤيد هذا المعني بقوله تعالي: (ومن قوم موسي أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف 159. وفي الآية ما يثبت أن قوم موسي لم يكونوا جميعهم علي طريق الضلال، وإنما فيهم من اهتدي إلي الحق وأرشد إليه، والآية عامة لا تحدد بزمن معين، فعلي هذا السياق يكون الأخذ بعموم اللفظ هو الظاهر. فإن قيل: كيف استطاع هؤلاء من الجمع بين الإيمان بكتابهم وبين الشرك؟ أقول: لا يمكن اجتماع الإيمان المطلق مع الشرك باعتبار تقابلهما، أما إذا كانت هناك نسبة بينهما فليس ثمة ما يمنع من اجتماع أبعاضهما.&

من هنا يظهر الفرق بين الآيات التي تخاطب اليهود وبين الآيات الموجهة للمشركين، وذلك بناءً علي ما يقع علي عاتق اليهود من ثقل متمثل في دورهم الريادي المأخوذ من الشريعة المنزلة عليهم، أمّا ما يقابل ذلك من غرض الآيات الموجهة للمشركين فهذا لا يتعدي إلي أكثر من تبليغهم برسالة النبي محمد (ص) دون إلزامهم بقضايا الطرح الموثق المتعلق بالتخلية قبل التحلية، كما هو الحال مع أهل الكتاب، ومن هنا نعلم أن القرآن الكريم لا يراعي المواجهة في الأسلوب الثنائي عند تعامله مع المشركين، ولهذا تجد اختلاف التعبير في خطاب اليهود وتوبيخهم علي أفعالهم، وتذكيرهم بالنعم التي أنعمها الله تعالي عليهم وكيفية جحودها، إلي آخر ما يثير لديهم العمق في الوصف، ولعل هذا هو السبب في قول الحق سبحانه: (ولا تكونوا أول كافر به) البقرة 41. علماً أن المشركين قد سبقوهم إلي الكفر، ولكن تأثير الشرك لا يقاس إلي جانب تأثير اليهود في الدعوة سواء آمن بها المشركون أم لم يؤمنوا، وذلك لعدم الاهتمام بأمرهم.

وبناءً علي ما تقدم تظهر النكتة في عطف آية البحث علي قوله تعالي: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) البقرة 40. أي: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي... إلخ، ثم قال: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون) البقرة 41. والمقصود هنا هو القرآن الكريم باعتباره يصدق جميع ما في التوراة الأصلية قبل التحريف، وقد أشار تعالي إلي ذلك بقوله: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) آل عمران 3. وفي هذا دليل علي أن الإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بالتوراة والإنجيل وجميع ما أنزل علي الأنبياء من قبل، والعكس صحيح أي إن الإيمان بالتوراة والإنجيل إذا كان في منأي عن الإيمان بالقرآن فهذا قد ينقض الإيمان من الأصل، وبهذا نعلم أن دين الله تعالي هو دين واحد لا يقبل التجزئة، ولا تفترق عليه الأمم، لأن الله تعالي أنزل الكتب يصدق بعضها بعضاً وكذا الأنبياء يبشر السابق منهم باللاحق.

&ولهذا فإن البشارة بالنبي محمد (ص) قد ذكرت في جميع الكتب السابقة، وكذا ما كان من نعته وصفاته، وقد أشار الله تعالي إلي هذه الحقيقة بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف 157. وكذا قوله: (وإذ قال عيسي ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) الصف 6. وقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) الفتح 29. وأخيراً بيّن تعالي النتيجة بقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون علي الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله علي الكافرين) البقرة 89.

وبناءً علي هذا الوصف القاطع لليهود يتضح أنهم من سنخ الكافرين بكتاب الله تعالي فلا يعتد بإيمانهم الجزئي، كما بينا ذلك من خلال البحث، وبهذا يظهر الفرق في تنوع الإعجاز القرآني، فكما ذكر تعالي في قوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) البقرة 2. وتحدي العرب في مطلع السورة أن يأتوا بمثله، نجد هنا أن الخطاب قد اختلف مع اليهود، وذلك لأن هؤلاء لا يمكنهم الوصول إلي مفاهيم البلاغة القرآنية، وما هو داخل في الملكات العربية من أدوات، ولهذا انتقل بهم السياق إلي إعجاز آخر ناتج عن إظهار القرآن لصفات النبي (ص) التي أرادوا كتمانها، ثم بعد ذلك بيّن الرسالة علي أتم وجه كما هو في نهجهم، لأن الشرائع تتفرع جميعها علي دين واحد، أمّا ما حصل من جهتهم فهو لا يخرج عن كونه تعنتاً وإنكاراً للحقيقة، كما في قوله تعالي: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا) النمل 14. ومن هنا نجد في سياق آيات البحث بعض الإشارات التي تدعوهم إلي تفهم إعجاز القرآن المعنوي والمرتبط في تذكيرهم بالطرق المؤدية إلي الهداية، كما هو شأن الكتب المنزلة علي أنبيائهم، وعلي رأسها التوراة الذي يعد من أهم مصاديق تلك الكتب وإن لم يكن هو الكتاب الوحيد من بينها.

قوله تعالي: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) البقرة 41. أي لا تقايضوا ما في التوراة من آيات الله التي فيها نعت الرسول (ص) مقابل عرضاً يسيراً من الدنيا، والاشتراء لا يراد منه المعني العرفي في هذا الموضع وإنما يفيد الاستبدال، كما في قوله تعالي: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين) لقمان 6. وكذا قوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) البقرة 16. وهناك مواضع أخري تفيد المعني نفسه... ثم ذيّل تعالي الآية بقوله: (وإياي فاتقون) البقرة 41. وتقديم الضمير يفيد الحصر، كما في قوله تعالي: (إياك نعبد وإياك نستعين) فاتحة الكتاب 5. والترهيب ظاهر في التذييل.

قوله تعالي: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) البقرة 42. الآية تشير إلي قسمين من أقسام الخداع لدي اليهود.

القسم الأول: يتمثل في الجدال بالباطل وإثارة الشبهات التي لها ارتباط وثيق بما يخفي علي عامة الناس ولا يمكنهم الوصول إلي تفاصيله، وهذا العمل لا يزال قائماً إلي اليوم، كما هو مبيّن في قوله تعالي: (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) غافر 5.

القسم الثاني: يتمثل في إخفاء الحقائق وكتمانها كما هو الحال في كتمان نعت الرسول وصفاته، وقد مر عليك ذلك من خلال البحث، وبهذا يكون القسم الأول فيه نوع من الإشراف علي القسم الثاني، ومن هنا كان الترتيب آخذاً بالترقي من الأدني إلي الأعلي.

&

&من كتابنا: القادم علي غير مثال

&