يقول الإمام الشافعي لو ما أنزل الله على المؤمنين إلا سورة العصر لكفتهم، وهذا يعتبر من الأدلة القاطعة على أن السورة مهما اختلفت في الطول أو القصر فهي بمنزلة الحجة البالغة على أهل الأرض، ومن وجه آخر فإن السورة التي أشار إليها تكون كافية للناس في تدبير أحوالهم وتسيير حياتهم بما تحتويه من الحث على العمل بدين الله تعالى، والتمسك به وكذلك تدعو إلى التواصي بالحق، والصبر على الطاعة وعن المعصية، ومن تأملها جيداً يكون على بينة تجعله يأخذ بالعبرة التي صورتها السورة في تناقص الزمن الذي استثنى الله تعالى منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات مبيناً أن الاستقامة الخالصة تكون خارج إطار العصر وخسرانه الذي يفرض على البشرية بعمومها.

فإن قيل: إذا كانت سورة العصر كافية للإنسان فلماذا أنزل الله تعالى القرآن بجميع سوره؟ أقول: ترتيب نزول القرآن الكريم بهذا الشكل وعلى نجوم مقسماً إلى أجزاء وأحزاب وسور وآيات يراعى فيه القابل العلمي للمتلقي فالضعف لا يكمن في السورة أو الآية ولكن الضعف يظهر في من يحدثهم القرآن الكريم، فمن الناس من يعتبر بشق آية أو حديث من القرآن، وبعضهم لو فسرت القرآن كاملاً أمام ناظريه فلم تحرك فيه ساكناً وذلك لبعده عن النهج الذي أنزله الله تعالى، إضافة إلى انغماسه في ملذات الأرض وما تؤول إليه نتائجها الزائفة، فهذا النوع من المتمسكين بالدنيا وزخارفها وزينتها الفانية لا يعقل أنهم يستجيبون لنداء الله تعالى من خلال سورة قصيرة، إضافة إلى أن القرآن الكريم يراعي الحالات المختلفة التي يكون عليها الناس في الطرح، فبعضهم يعتقد أن القصص القرآني ليس الغرض منه إلا التسلية، أو أنه مادة تأريخية بعيدة عن الواقع الذي نعيشه، وهذا قمة التجني على كتاب الله تعالى، حيث إن القرآن الكريم يحاكي الواقع المعاش بكل تفاصيله.

فليس هناك جملة في الذكر الحكيم لا تدل على سعادة الإنسان والأخذ بيده إلى بر الأمان، فمهما اختلفت تفاصيل الحياة التي نعيشها وتشعبت متطلبات الإنسان بين السياسة والاقتصاد والاستبداد والطغيان الذي يحاصر الناس في وقتنا الحاضر، كل هذا لا يمكن أن تعالجه الكتب المنتشرة في أرجاء الأرض، وإن كنا لا ننفي أهمية وجودها على قاعدة إثبات الشيء لاينفي ما عداه.

إلا أن المعالجة لتفاصيل الحياة التي تكمن في أيامنا لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال النهج الرباني الذي أنزله الله تعالى وجعله مقدماً على خلق الإنسان نفسه من حيث أهميته كما قال جل شأنه: (الرحمن***علم القرآن***خلق الإنسان) الرحمن 1-3. وهذا هو الحق المبين الذي بسبب الإعراض عنه فقد الإنسان المفتاح الفطري الذي يوصله إلى السعادة الدائمة سواء في الدنيا أو الآخرة، ومن هنا يظهر أن التفاوت في القابل العلمي والتمييز الفطري لدى العامة من الناس أدى إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب، إلا أن الحقيقة التي تكون كافية وملزمة للبشرية، ممكن الوصول إليها من خلال سورة قصيرة من سور القرآن الكريم، ولذا نجد أن الله تعالى جعل سورة فاتحة الكتاب تعدل جميع التفاصيل القرآنية من خلال علاقتها التي تثنى مع القرآن بكل إتجاهاته العقائدية، ولذلك تصدرت القرآن الكريم من حيث الترتيب مشيرة إلى لوازم التوحيد والألوهية والقصص، وقسمت بين العبد وربه، وقد ذكر في الخبر أن "من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شيء" وفيها الدعاء وطلب الهداية، ولذا أشار تعالى إلى عظمتها مخاطباً رسوله الكريم بقوله: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) الحجر87. وفي الآية مباحث:

المبحث الأول: السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب على ما يتضح من علاقتها بتفاصيل القرآن الكريم، وعلى ما أثبتته الروايات الصحيحة التي رويت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بطرق معتبرة. أما ما ذكره بعضهم من أنها السبع الطوال أو الحواميم السبع وكذا ما قيل من أنها الصحف التي أنزلت على إبراهيم وموسى، فلا دليل على ذلك يثبت مصداقية ما ذهبوا إليه.

المبحث الثاني: ذهب جمع من المفسرين إلى أن فاتحة الكتاب سميت بالسبع المثاني لأنها تثنى في الصلاة وتقسم إلى قسمين "ثناء ودعاء" وذهب آخرون إلى أن تسميتها بالسبع المثاني جاء بسبب ما يقرأ بعدها في الصلاة، واستدل بعض المفسرين على أن سبب تسمية آيات الفاتحة بالمثاني لأنها قسمت قسمين بدليل قول النبي الذي جاء فيه: "يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين....... الحديث" وهذا الحديث مشهور بتقسيم آيات فاتحة الكتاب. وقيل إنها سميت بهذا الاسم لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أول البعثة ومرة بالمدينة، وهناك أقوال أخرى ذكروها تعود أغلبها إلى ما قدمنا.

المبحث الثالث: معنى مثاني مشتق من الثني أي إن آياتها تثنى مع آيات القرآن الأخرى وتعطف عليها كما سيمر عليك، والثني يعني اللوي والانكسار كما في قوله تعالى: (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) الحج 9. والثني هنا بمعنى العطف وهو كناية عن الإعراض، بمعنى أن المعرض يكسر أحد جانبيه ويعطفها على الآخر.

المبحث الرابع: الرأي الذي أقف عنده هو أن التسمية ترتبط بين فاتحة الكتاب والقرآن بمعنى أن الآيات القرآنية جميعها تعتبر مثاني، أي إن بعضها يفسر البعض الآخر ويُعطف عليه، ولا بد لهذا العطف والتثنية من مركز وقرار فكان هذا المركز متمثلاً في سورة فاتحة الكتاب والتي من أسمائها.. أم الكتاب، الكافية، الشافية، الأساس، وأسماء أخرى إلا أن الأسماء التي ذكرتها تشير إلى معنى المركز القرآني الذي سميت على أساسه بالسبع المثاني، أي إن أصل التثنية القرآنية ينبع من هذا المركز والقرار، وإلا فإن آيات القرآن الكريم تعتبر جميعها مثاني بدليل قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) الزمر 23. ولأجل هذه الأهمية أفردها الله تعالى بالذكر ثم عطف القرآن عليها كما مر عليك في قوله: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) الحجر 87.

فإن قيل: عطف القرآن العظيم على السبع المثاني يقتضي أن تكون السبع المثاني من جنس آخر غير القرآن بسبب أن المعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه؟ أقول: هذا مردود بقوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) الرحمن 68. وقوله: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة 98. وكذا قوله: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) الأحزاب 7. فإن قيل: قوله تعالى: (من المثاني) يقتضي أن تكون فيه (من) للتبعيض وهذا لا ينسجم مع ما قدمت؟ أقول: (من) هنا ليست للتبعيض وإنما لبيان الجنس وتعمل عمل الصلة، أي: آتيناك سبعاً هي المثاني وهذا كقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الحج 30. ولا يمكن أن يأمر الله تعالى باجتناب بعض الأوثان وإنما المقصود فاجتنبوا الرجس الذي هو عين الأوثان.

&

[email protected]