&يقوم نظام الآلهة في الأساطير القديمة بدور محوري في حياة المجتمعات. والدول الفاعلة والمستأسدة تاريخيا هي تلك التي تحضر فيها الآلهة حضورا قويا ومُؤثرا، الرومان واليونان والفراعنة والاسكندناف وغيرهم، بحيث تقتسم الآلهة مجالات الحياة، تتآلف تارة وتتصارع أخرى. نبتون وساتورن وجونو وأبولو وزيوس وأفروديت وبوسيدون وعشتار وآمون وغيرها من أسماءِ آلهةٍ في حضاراتٍ مختلفةٍ ارتسمت في أذهان الناس عبر التاريخ، تؤثث المشهد الثقافي، وتغني المخزون المعرفي، وتؤثر في حياة الجميع، وتتدخل في تفاصيلها من خلال ملاحم وطقوس أعطت لكل حضارة تميزا عن غيرها. ولأننا أيضا لنا امتداد حضاري وتاريخي، فلا أحد ينكر أن حضارتنا لها موقع مهم في الإرث الأسطوري الكوني، ملاحمُ صنعتها آلهة، ليس كمثلها آلهة. وهنا نجد الأسطورة القديمة تحكي تفاصيلَ، وُجدت في لوحٍ خشبيٍّ مهملٍ داخل بيتِ متسولٍ بجوار المعبد الكبير في المدينة، مات بصعقةِ برقٍ تسلّلت شرارتُه عبر النافذةِ في ليلةٍ ممطرة، انتبه الناس لغيابه في الصباح، فدخلوا بيته ووجدوه ميتا ورأسه على وسادة عفنه، تحتها وُجد اللّوح الذي حُفظ بأمر من الوالي داخل متحفِ قصره لما احتواه من دُرر أسطورية نادرة. وفيه تحكي الأسطورة أن جنوب المتوسط، في جزئه الغربي، عرف نظاما أُلوهيا معقدا، شكلته آلهةٌ دخلت في علاقة تآلف، تميزت عن غيرها من آلهة اليونان والرومان بأنها لم تسجل أية حالة صراع أو عنف بين بعضها البعض، بل كل ما كان يجمع بينها هو الاحتضان والألفة، التعاون والتآزر، لصالح الإنسان، وإن سُجلت بعض المناوشات المحدودة. فكبير الآلهة بِنْكو تميز بالحزم والصرامة، ولم يكن يسمح بأية تجاوزات، وإذا ضاق به مجال حركته لجأ للبكاء، وكانت دموعه تجري بين الأزقة والدروب كما تجري السواقي والأنهار، فتزيد الحياة بهجة وأَلقا فيتوقف كل حزن والتِعَاجٍ بين الناس، بل وحتى بين الآلهة كان يتوقف الكرب والكَمَد. فكل الآلهة كانت تتحرك بأمره وفي حضنه، وتتأثر بفعله وكلَفه. كان أقرب الآلهة إليه هو الإله خافيو، وهو في الأصل نصف إله، ويُقال أنه الابن غير الشرعي لـ بِنْكو، إذ لم يحدث أن عَامَل إلهٌ إلهاً آخر بمثل ما عامل بِنْكو خافيو، يحميه، يوجهه، ويدعمه، دون أن يكون بينهما أي اختلاف مطلقا، مع العلم أن خافيو لم يكن سوى إله المراسلات، وفي أعراف الآلهة، إله المراسلات يبقى بعيدا عن كبير الآلهة ولا يلتقيه إلا في المرات التي يريد أن ينقل عنه خبرا أو مرسولا يلقيه على العموم، كما أن درجة خافيو هي الأقل بين باقي الآلهة، مما زاد من الشكوك في أن تكون رابطة سرية ما تربطهما، ومن الأشياء المثيرة التي تحكيها الأسطورة – والأساطير كلها إثارة – أن خافيو هو الوحيد الذي يعرف نقطة ضعف الكبير بِنْكو، وكان يتفانى في إخفاءها بمهارة أعجبت بِنْكو كثيرا، فكان أن كافئه بمخالفة التقاليد والأعراف، وتقريبه منه على غير العادة، دون امتيازات أخرى. ولأن مشاغل بِنْكو كبيرة ومُضنية، كان من الطبيعي ألا يلتفت إلى الكثير من التفاصيل التي تخص الآلهة الأخرى، كما يحاول باستمرار التهرب من كل مشكلة تخص إلها آخر، حتى وإن عُرضت عليه، ومنها مثلا مشكلة الإله شوشو، إله الحظ والأنباء السارة، مع رئيس فريق العمل الخاص بالأنباء عنده، حيث قام بينهما خلاف كبير، فلم يكونا على وفاق أبدا، وتعامُلُ رئيس الفريق مع مرؤوسيه كثيرا ما كان يعرف تدخل شوشو فيفسد خطة العمل، حاول شوشو معاقبة الرئيس والكيد له، لكن الأخير كان ينفلت من بين يديه بعناد ينم عن ثقة وحرص لم يتقبلهما شوشو، حتى وصل الأمر إلى بِنْكو، توقع الرئيس أن يكون تدخل كبير الآلهة في صالحه، لأنه هو من عينه رئيسا لفريق العمل وليس شوشو، لكن العكس هو الذي حصل، فتجنبا لتطور الأمور أمر كبير الآلهة من الرئيس التخلي عن موقعه لإنهاء المشكل، فـ شوشو إله، أما الرئيس فمجرد بشر، وحاجة بِنْكو لـ شوشو كانت كبيرة في القادم من الأيام، وهذا ما حصل فعلا.. خضع الرئيس لـ بِنْكو ضمن الطقوس التعبدية المعروفة، وانسحب في صمت وإذعان..، وكم كانت خيبة بِنْكو كبيرةً عندما خَيَّب شوشو ظنه بسقطاته الكثيرة، ومنها طلبه التخلي عن الأخبار السارة، لأن انسحاب الرئيس جعله مُطالب كل مرة للقيام بشيء جديد مواكب لها، وهذا ما لا يطيقه ولا يقبله، فاكتفى بالحظ كتخصصه الألوهي الوحيد، وفقدت الأخبار السارة موقعها داخل المنظومة، إذ عاش الجميع حالة كدر كبير، دون اكتراث من شوشو، فهو سعيد بربحه الكثير من الوقت، استغله في علاقته مع سوسو إلهة القمر والنجوم، التي كانت ترى كل شيء مضيئا ومبهجا، لأنها هي مصدرهما أصلا. فأُعجب برؤيتها تلك ودخل معها في علاقة لم يرضى عنها بِنْكو، فغضب منهما غضبا شديدا، ليس بسبب العلاقة في ذاتها، بل لأنها لم تكن بإذنه ومباركته، فكان لانزعاجه عواقب وخيمة على الاثنين، لأن التقاليد تفرض على المغضوب عليهم الخروج من مجمع الآلهة والنزول إلى مرتبة البشر، فكان أن اشتهرت سوسو بأنها ضحية (سوسو ضحية شوشو). موقع سوسو لم يبقى فارغا بل عوضها بنكو بنصف إلهة تشترك معها في الكثير من المزايا، فهي ذكية وألمعية، تسبق أقرانها من البشر في قراءة الأحداث، إنها جَمِيصُو زوجة هَلايو، البشري الذي لطالما تصور نفسه إلها للتربية والأخلاق الحميدة، وهي الدرجة التي لم ينلها أبدا، فلم يحس بوجوده أحد. جَمِيصُو جلست عند أقدام بِنْكو يوم التنصيب، رَبَثَ على كتفيها وأمرها بالنهوض والانصراف إلى شئونها، على وقع زخّات المطر المتداخلة مع أشعةِ شمسٍ حارقة تلونت على إثرها السماء بكل الألوان، في مشهد مهيب لا يتكرر إلا عند ارتقاء بشر إلى مستوى نصف إله يحتل موقعا داخل مجمع الآلهة، وهكذا دخلت جَمِيصُو المجمع، كان خافيو حاضرا يومها مع باقي الآلهة، وكان هو الأقرب إلى بِنْكو مكانا، وأحس أنه في مأمن ما دام بعيدا عن غضبه، وفي خدمته لا يتحرك إلا بإذنه مهما حصل. خاصة وأن اليد الحديدية لـ بِنْكو كانت رَمَيْدو، إله السجن تحت الأرض، والذي تميز بالقسوة والجبروت، وهو من يضع القوانين التي تضبط العلاقات بين البشر وبين الآلهة، فلم يكن يرحم بشرا ولا إلها، فالكل خاضع لـ بِكْنو ولا خلاف حول هذا، ولن يكون.

&البشر لا تتوقف مشاكلهم، كما لا يتوقف ولا ينقطع خضوعهم للآلهة في طقوس تعبدية يغلب عليها الصمت والإذعان، وإذا حصل أن تمرد بشريٌّ ومارسها بشكل مخالف نال من خدّام رَمَيْدو ما لا يطيقه بشر، بحيث كانوا يشُقُّون، بأمره، جسم الواحد شقين، الأول يفصل عنه الروح والآخر يبقيها فيه دون قدرة منه على الحركة، فيبقى معلقا بين الحياة والموت، ميت بنصفه، حي بالآخر دون حِراك، مع إلزامه بالخضوع لـ بِنْكو عبر أداء الصلاة اليومية كل صباح قرب النُصب الموجود أعلى جبل التَّوق الموجود عند الطرف الشرقي للمدينة، يحتل موقعا لائِحاً يُمَكِّن الجميع من رؤيته برهبة، ورهبته هاته مرتبطة بشكل النُّصب الذي يجسد الرمز الذي اختاره بِنْكو لنفسه وهو العقرب الأخضر. كثيرون هم الذين يجتمعون عند الجبل في ملحمة العذاب الرهيب، فهم عُصاة مذنبون حُرموا خير بِنْكو، في الوقت الذي ناله آخرون تميزوا بخضوعهم التام له باعتباره إله الخير المطلق، حيث يقصدونه لحاجاتهم الضرورية فيرميهم بكلامه اللطيف الحازم في آن مع دموعه الرقراقة فيرجعون في فرح وبهجة دون أن تُقضى حوائجهم. ليص.. ليط..، لم يعد الخط على اللوح المهترئ واضحا بالقدر الكافي، وهنا انتهت الأسطورة رغم نقص مضمونها، قد تتطور علوم الآثار يوما ونتمكن بفضل ابتكاراتها التقنية من قراءة الباقي.&

كانت هذه أسطورة بِنْكو إله الخير المطلق، وهي مجرد عمل تخييلي يبحث عن الجذور الأسطورية لجنوب غرب المتوسط. وشخصياتها من بِنْكو إلى خافيو ورَمَيْدو وشوشو وغيرهم، ليست سوى شخصيات افتراضية تفتقت عن "خيالي المريض"، وأي تشابه ممكن بينها وبين أسماء ووظائف لأناس معروفين بحساسيتهم المفرطة، هو من باب الصدفة لا غير. وبه وجب الإعلام. والسلام.&