&"الحرية هي الرغبة بأن نكون مسؤولين عن أنفسنا"
أبراهام لنكولن
بعد مشاهدتنا آلاف السوريين من خلال وسائل الاعلام المرئية وهم يقصدون الدول الأوربية من خلال بلمات الموت هرباً من ألسنة الجوع والمعارك، وبعد أن أُخبرنا بملابسات قوانين الادماج من قِبل بعض اللاجئين في تلك الدول، اضطررت الى مراجعة بعض القواميس والمعاجم لمعرفة كُنه كلمة الاندماج، فلاحظتُ بأن هنالك اجماع عام على أن عملية الاندماج على الأغلب تتم بالتراضي بين طرفين أو أكثر، مثل انْدِماجُ مَدْرَسَةٍ في أُخْرى وإِلْحاقُها لِتُصْبِحَ مَدْرَسَةً واحِدَةً، أو اِنْدِماجُ البَلَدَيْنِ فيعلنا اتِّحادُهُما في دَوْلَةٍ واحِدَةٍ، أي هي عمليّة يتَّحد فيها جُسيمان أو أكثر لتكوين جُسيم واحد، اندمجت العائلة، اندمجت الشركتان، واِنْدَمَجَ في المجتمع: تَكَيَّفَ مَعَهُ، دَخَلَ فيهِ، انْدَمَجَتِ القُوَّتانِ: دَخَلَتْ إِحْداهُما في أُخْرَى بالتراضي وليس بالقسر والإكراه كما يتحدث عنها بعض اللاجئين السوريين في الدول الغربية.&
وحسب فهمنا للكلمة ومقاصدها رأينا بأن عملية الاندماج عليها أن لا تكون قضية قانونية إرغامية حتى يحق للدولة السيطرة عليها مائة في المائة، بل هو أيضاً قرار الأب والأم في الأسرة التي هي بالأصل الخلية الأولى في المجتمع قبل المدرسة، وأن على الأسرة أولاً السماح لأولادهم بالانخراط في المجتمع بناءً على مدى اقتناعهم بهذا الاندماج وليس من خلال إجبارهم على ذلك بفضل قوانين لا يعرفون مضامينها إلا بعد شهور وسنين من إمضائهم على بنودها، وذلك من خلال فرض الادماج عليهم كما يحصل عادة لأولاد المسلمين في الدول الغربية، فأية حرية هذه إذن عندما تجبر أحدهم بجرة قلم، بأن يتخلى عن ثقافته الاجتماعية ومورث القرون خلال بضعة شهور أو خلال أيام معدودات بدعوى ضرورة التكيف والاندماج السريع في المجتمع الجديد.&
لذا وربما كتمهيد لتقبل اللاجئ الباحث عن مساحة الأمان والحصول على لقمة العيش، وللهضم مرغماً كل ما تطلبه الدولة المضيفة منه لاحقاً من التزامات بالقوانين والتعهدات، يرى بعض من يُعاين مشهد الذين تم حشرهم مع أناسٍ آخرين من مختلف المشارب والأعراق والطوائف في مهجعٍ واحد في تلك الديار، بأن الهدف من تكديسهم اللامُعلن معاً في تلك التجمعات البشرية، هو بالأساس لتلقينهم أولى جرعات الترويض وتقبل قوانين تلك البلاد بصدرٍ رحب، باعتبار أن البلوكوز أشبهُ بحقلٍ مؤقتٍ للتجارب، هو قد لا يكون معسكرٌ أعدهُ المُستقبِلُ المتعاطفُ مع اللاجئ لإنزال الاهانة بنزلائه المرغمين على بلع جرعات الوقائع صاغرين، إنما هو المكان المؤقتُ الذي يُجبَرُ فيه المرءُ على تحمل وضاعة وسقاطة أقرانه في المأوى المشترك، وهذا بتصوره أحد أهم المقدمات الفعالة لتخليصهم تدريجياً من مفهوم كرامتهم الشرقية طائعين.&
لذا فإن التعارض بين مفهوم الحرية كصون لكرامة الانسان وانتزاعها منه غدا حديث الكثير من اللاجئين، إذ أننا من خلال العودة الى مفهوم الحرية فيرى ابراهام لنكون بأن "الحرية هي الرغبة بأن يكون المرء مسؤولاً عن نفسه"، وليس أن يكون هنالك من هو مسؤولاً عنا وعن أجسادنا، فهل يحق للغير إذن التحكم بجسد الثاني بدعوى تقبل طقس وقوانين الحرية في تلك البلاد؟ إذ فيما يتعلق ببعض شروط الاندماج في الدول الغربية التي تستضيف اللاجئين الهاربين من أتون الحروب في بلدانهم، يقول بعض السوريين هناك، بأنه لا يتم قبول السوري ببعض الدول ومنها الدنمارك إلا بتوقيعه على وثيقة الاندماج، من دون معرفتهم لمضمون الوثيقة التي يوقعون عليها، وماذا يريدون منها؟ ولكن بعد حين ظهر لبعضهم، أن إحدى السوريات هناك عندها بنت صبية في المدرسة برعاية الحكومة الدنماركية وعادت البنت من المدرسة يوماً إلى أمها وهي تبكي وتقول: لقد أجبرونا في المدرسة بناتاً وشباباً على أن نخلع ثيابنا عراة تماماً، وقيل لهن أن هذا الاختبار الجسدي هو لكسر الحواجز بين الجنسين ولكي يتعرفوا على بعضهم، بدعوى إزالة الهيبة بين الجنسين، وقد ذهبت والدة تلك الفتاة من فورها غاضبة إلى المدرسة لتشتكي من هذا التدخل السافر وكشف جسد الفتاة أمام الكل، فما كان رد المسؤولين إلا وهم يقولون لها أنتِ وقّعتِ على وثيقة الاندماج بنفسك ولا يحق لك الاعتراض، وعندما قالت المرأة لا اريد لابنتي أن تتابع في المدرسة قيل لها لا يحق لك ذلك*، هذا بالإضافة الى ما تحويه قوانينُ تلك البلدانِ المستضيفة لهؤلاء المهجرين مِن أحكام مخالفة لأعراف وثقافات وشرائع القادمين من منطقة الشرق الأوسط، والتي تُخل بقيام الرجل على أسرته، وتتيح للدولة انتزاعَ الولاية على الزوجة والأبناء، وتوكِلُ أمرَ رعايتهم وتربيتهم لأُسرٍ أو مؤسسات لا شأن للأهل بهم، ويا ترى هل هذا السلوك الممارس من قبل تلك الحكومات مع اللاجئين هو أصلاً مبني على ما جاء في نظرية فوكوياما التي ترى بانتصار قيم الليبرالية الغربية كمصدر أوحد للبشرية جمعاء؟ أم أن هذه المركزية الغربية قد تشهد فيما بعد مراحل من الشد والجذب ومن ثم تميل الوقائع والأحداث المتراكمة الى التوجه نحو مضمون نظرية هنكتنكتون وصراعه الحضاري، وهذا ما يحيلنا مجدداً الى نيتشة الذي أشار بأن للتقدم وجه آخر هو الاستبعاد والاقصاء، علماً أن الفلاسفة أكدوا على أن الحرية قيمة مطلقة، لأنها تنبع من وجود الانسان، وهي لذلك لا تستحق إلا إذا اعترف بالإنسان بكيانه وعقله، وأنه هو غاية القانون والدولة*.&
إذ أن هذا التعارض الثقافي أو بالأحرى شعور الهيمنة الثقافية لدى الدول الغربية يعيد إلى أذهاننا رأي أحد رسل الانسانية ألا وهو المهاتما غاندي الذي قال يوماً: "يجب أن أفتح نوافذ بيتي؛ لكى تهب علية رياح كل الثقافات، بشرط أن لا تقتلعنى من جذوري"، لذلك نتساءل فإذا كانت الحرب جعلت نوافذ المحتاج تفتح على مصراعيها، فهل هذا يعني بأن من آواهم عليه أن يغزوه بثقافته بناءً على معرفته بظرفه وتحكمه به، علماً أن التمييز بين الادماج الحضاري والإخضاع الثقافي واضح، والفرق بين التلقف الحضاري حباً والقسر الثقافي هو الفرق ذاته بين الانفتاح والانبطاح، ويرى بعضهم أن احساس التفوق الحضاري لدى الغربي يدفعه لإرغام من ارتمى على أبوابه على خلع ثقافته مقابل إيوائهم وإطعامهم وإنقاذهم من براثن الحروب، وهذا بحد ذاته يناهض جوهر الحرية الشخصية للإنسان، بل وهذا بتصور البعض يدخل في إطار استغلال الانسان للإنسان وفق مفهوم المفكر الألماني الراحل كارل ماركس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بالنسبة لهذا المسلم أياً كان ومن أية بقعةٍ جغرافية كانت، والذي تربى منذ الصغر على أن مفهوم الشرف لديه لا يزال مرتبطاً بالجسد، سواءً جسده أو جسد أنثاه، فهل يحق لإنسان آخر ولمجرد أنه ساعده أو آواه أو خلصه من جحيم نظامه، بأن يجرده من مفاهيمه كلياً حتى يتواءم وجودياً مع ثقافة البلد المضيف، وهل يعرف ذلك المسلم الباحث عن الأمان والعيش كل تبعات عملية الاندماج؟ وهل هو ضمنياً راضٍ عنها؟ أم أنه لا يريد أن يعرف تفاصيل الكلمة حتى لا تنغص حياته التي للتو بدأ بها في العالم الجديد الذي أنقذه من براثن الموت الجسدي، ليرديه لاحقاً في وادي التعذيب النفسي الذي سيطول به لسنوات طويلة؟ فحقيقةً بالنسبة لصاحب السطور، فهو شخص علماني غير متدين لا يصلي ولا يصوم، ولكن نيابة عن المسلم تراه يقول: بأن هذه الدول التي تدعي الانسانية لو فعلاً تحترم الحرية الشخصية والجسدية للإنسان، لما فرضت ثقافتها الجنسية في المدارس بالإكراه الناعم على اللاجئين الجدد مقابل إيوائهم وإطعامهم، أليس هو الابتزاز بعينه عندما نرى دولاً تدعي بأنها من رسل الحرية والديمقراطية في العالم، وبنفس الوقت تفرض ثقافتها رغماً عن الشرقيين مقابل قصة إيوائهم وإطعامهم؟ أليس من المفروض أن يحض الواقع المرير لملايين المسلمين المعنيين بحقوق الأوادم البحث بجدية عن حل وسط لحل هذه الاشكالية، وذلك بالعودة الى الفيلسوف والمؤرخ والناقد الاجتماعي البريطاني برتراند راسل الذي لم يكن برجل دين إنما كان ليبرالياً واشتراكياً وداعية من دعاة السلام، وذلك في قوله: " حين تكون الحرية ضارة فيجب أن نلجأ للقانون"، إذن أفليس من المنطقي أنه إذا ما رأى آلاف الناس من فئة ممن يسمون بالمسلمين بأن هذه الحرية الغربية تضر بهم وبمستقبل أسرهم، أن يدفع ذلك التضارب الحاصل البحث عن قوانين ونصوص جديدة تناسب البلد ولا تتعارض مع حرية وكرامة هؤلاء الناس الذين جاؤوا ليستردوا كرامتهم من طغاة الشرق، وليس لسلب ما تبقى منها بدعوى الحرية والاندماج؟.&
ــــــــــــ
مراجع:&
ـ دراسة حول الجالية العربية في بلجيكا: بين الاندماج والعزلة،إعداد د. هشام عوكل / بلجيكا1/04/2008.
ـ المعلومات الشخصية عن أوضاع اللاجئين في النص مأخوذة عن الدكتور بكار حميدي.
ـ العولمة والعنف المعاصر، جدلية الحق والقوة، الدكتور فيصل عباس، دار المنهل اللبناني.
التعليقات