انها الساحة التي انصهرت فيها جميع احداث العراق الحديث والمعاصر كما انصهرت القطع الفولاذية الأربعة عشر التي تكون نصب الحرية رائعة النحات العراقي العبقري جواد سليم.
ساحة التحرير&عادت&لتعج بالاف الثوار وهم هذه المرة جيل جديد جرى طمسه وخنقه وحقنه ولطمه وتهميشه املاً في الاطمئنان انه لن ينهض ولن يثور او يتمرد و يطالب بالتغيير او الاصلاح لأنه نشأ وترعرع في بيئة الفساد السياسي فهو لا يعرف ماهي السياسة الصالحة لكي يطالب بها . خطة مقصودة انتهجتها حكومات العراق المتتالية بعد ٢٠٠٣ استهدفت شريحة الشباب قتلاً وقمعاً وتهميشاً، فضلاً عن الفقر والجوع وتردي التعليم الذي كله كان مقصوداً لخلق جيل ضعيف غير واعي وغير منتج جيل اعمى عن الفساد واخرس في الاعتراض واطرش عن صوت السياسيين النشاز.
في جمعة تشرين الاول توجهت اعداد غفيرة من المتظاهرين الشباب الى ساحة التحرير في حراك شعبي غير مسبوق ومستقل عن دعم أي تيار او جهة سياسية، ومع انه سلمي ومستقل اختارت الحكومة ان تقمع هذا الحراك بالقوة الوحشية المفرطة. هدأت وتيرة المظاهرات بعدها، خاصة بعد خطاب المرجعية العليا في النجف وخطابات رئيس الحكومة السيد عادل عبد المهدي الذي وعد فيها بمحاسبة المسؤولين عن اعمال القنص والقتل ضد المتظاهرين كما وعد بكمية هائلة من الإصلاحات الوهمية والغير منطقية علها تسكن هياج الشارع. ولكن العراقيين قرروا ان يعودوا في مظاهرات ٢٥ تشرين الاول التي كانت اشد واقوى بل انها مظاهرات لم يشهدها تاريخ العراق الحديث.
مظاهرات ساحة التحرير في بغداد وعدد من المحافظات الجنوبية جائت بفعل تراكم عدد من الاسباب كان من ابرزها:

- وصول حكومة عادل عبد المهدي الى مرحلة العجز المطلق عن تحقيق أي اصلاح حقيقي وملموس في الشارع .

-وصول البرلمان الى حالة الجمود التشريعي وعدم قدرته على تشريع القوانين النافذة والحاسمة في الحياة السياسية والاقتصادية في العراق مثل قانون الاحزاب وقانون مجالس المحافظات وقوانين الضمان الاجتماعي وقانون النفط والغاز.&

-عجز الحكومة والسلطات التشريعية والتنفيذية عن اتخاذ اي اصلاح حقيقي قاد البلاد الى تفشي الفقر و ازدياد معدلات البطالة ترافق معها حالة القمع الوحشي وانفلات القانون وازدياد حالات الجريمة وانتشار المخدرات وسطوة المليشيات التي صارت لها اليد العليا في البلاد مع تراجع سلطة القانون وقدرة الدولة على السيطرة على هذه الفصائل المسلحة وسلاحها الذي صار ينتشر في داخل المدن.
بالمقابل اهملت حكومة عادل عبد المهدي كل تداعيات ملف الخدمات في الداخل وصارت تخصص كل جهودها لصالح القيام بدور الوسيط الإقليمي وحامل الرسائل في الصراع&الايراني الامريكي في المنطقة ، وتباهت الحكومة بأكبر وفد يزور الصين بقيادة السيد عادل عبد المهدي ورجعت من هذه الزيارة البعيدة خالية الوفاض دون الحصول على اي مكاسب اقتصادية تدعم الاستثمار والاقتصاد المتهالك في البلاد.
حكومة عادل عبد المهدي ليست المتهم الرئيسي بما وصلت له حال العراقيين بل انها الجيل الثالث من الحكومات الفاشلة والعاطلة عن الاصلاح فحكومتي المالكي الأولى والثانية وحكومة العبادي كلها تشترك بانها أسست هذا النظام السياسي السيء الذي تراكمت فيه اعراف المحاصصة المقيتة ودولة الفساد العميقة والمتجذرة. انها حكومات تأسست وفق دستور هزيل كتب وقت الاحتلال الامريكي المباشر ارادت من خلاله الولايات المتحدة ان تكمل مسرحية العراق الديمقراطي الجديد لتخفي معالم كارثتها في بعد ٢٠٠٣، هذا الخطأ الذي انتهزته ايران لترسخ اركان نفوذها في العراق، انه نفوذ لم تحلم به ولا يمكن ان تتنازل عنه.
اذن نحن امام منظومة فساد حكومي مدعوم دولياً واقليمياً بل ومطلوب بقائه حياً حتى وان كان قد فارق الحياة وفارقه العراقيون منذ ان سقطت المدن العراقية الواحدة تلو الاخرى في يد تنظيم الدولة ثم عادت لتسقط من جديد بيد المليشيات المدعومة من ايران.&
اليوم المتظاهرين لم تعد مطالبهم تقتصر على اخراجهم من دوامة الفقر والبطالة وانعدام الخدمات بل انهم طالبوا باستقالة عادل عبد المهدي وسائر اركان الدولة واصلاح الدستور واصلاح قانون الانتخابات، والحقيقة ان لا نوايا لتحقيق اي من هذه المطالب في الايام الاولى للثورة.&
عادل عبد المهدي لم يكون رئيس وزراء مختار من قبل كتلة اكبر او حزب قوي داخل البرلمان كما هو حال سابقيه، والدليل ان القوى السياسية داخل البرلمان منقسمة على استقالة عادل عبد المهدي حيث تدعم بقائه احزاب الفتح والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني وتحالف المحور خميس الخنجر وابو مازن وتحالف القوى. بينما تسعى الى اقالته كل من سائرون والحكمة والنصر والقرار وتحالف الوطنية بزعامة اياد علاوي وحراك الجيل الجديد.اذن مرة اخرى انقسمت الاحزاب والتيارات السياسية حول عادل عبد المهدي.

عادل عبد المهدي رغم فشله وهشاشة موقفه السياسي الى انه ضل محمي من قدرة الاحزاب على التحكم بمصيره فهو رئيس وزراء " توافقي " ليس بتوافق الاحزاب الكبيرة بل بتوافق المؤثرين الكبار في العملية السياسية في العراق ودورها في الصراع الايراني -الامريكي وهم كل من الحرس الثوري الايراني والمرشد الاعلى. وبالتالي كل تغيير سياسي وطني في العراق لا يمكن ان تسمح به ايران ، واي تغيير سياسي في العراق يحدث على خلفية هذه التظاهرات يجب ان يصب في مصلحة ايران ولصالح اذرعها وعدى ذلك سوف تكشر هذه الاذرع والمليشيات عن انيابها الدموية التي لن ترحم اي طرف في سبيل بقائها.&
ايران لن تحمي شخص عادل عبد المهدي حتى وان كان قد ادى دوره المطلوب بجدارة،ايران تحمي مجمل النظام السياسي الذي تم ترتيبه عبر السنوات السابقة والذي يتيح لها بسهوله وانسيابية عملية التغلغل السياسي والاقتصادي والامني.لذلك فهي قد تمرر اقالة عادل عبد المهدي ولكن ليس قبل ان تكون قد تأكدت انها امنت حكومة جديدة تؤدي المطلوب منها في المرحلة المقبلة من الصراع مع الولايات المتحدة.
امام هذا النظام المحبوك والمحمي بالدستور وبالمليشيات لم يبقى امام المواطن العراقي البسيط المعدم اليائس سوى ساحة التحرير هي الوطن الذي وجده أخيرا العراقيين بعد ان تحولت اغلب مدن العراق الى اطلال ومخيمات للنازحين، وملاذ امن للمليشيات والفصائل المسلحة المدعومة من ايران لتخيف بها جوارها الاقليمي العربي وتستفز بها الولايات المتحدة. ساحة التحرير انها البرلمان الذي اختاره الشباب العراقي لكي يوصل صوته فيه بعد ان اصيب ممثلو الشعب بالصمم والشلل وهو الحكومة التي اختارها بعد ان اختارت الحكومة ان تاخذ من اموال الموازنة المخصصة للخدمات والتوظيف وتشتري بها السلاح وقنابل الغاز المسيل للدموع لتقمع فيها من يحاول ان يطالب بالاصلاح واخراج العراق من نفق التجاذبات الاقليمية الدموية.