يعتقد علماء النفس الاجتماعي ان السبب الرئيس في ازدواجية المعايير هو خلل في القيم والأخلاق التي توجه السلوك لدى الشعوب. هذه الازدواجية وهذا التناقض ما بين التفكير والممارسة يكاد يكون مسيطرا بشكل كبير وواضح في المجتمعات العربية، حيث جعل من وجود هذه التناقضات امرا طبيعيا لا نعيره أي اهتمام، فباتت الازدواجية صفة يتصف بها الكثيرون منا. والخلل في منظومة الاخلاق تجعل من الازدواجية الفكرية "ريحا صرصرا" تعصف بكل مناح الحياة، فنرى الازدواجية الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، وهذا من شأنه زج المجتمع في هوة الأمراض الأخلاقية وتفشيها في المجتمع، الأمر الذي احدث اعوجاجا كبيرا في التعاملات بيننا.

تفشت ازدواجية المعايير في مجتمعاتنا العربية بشكل واضح لدرجة أن أصبح النفاق جزءا من سلوكنا الاجتماعي، والكيل بمكيالين في كل شؤوننا اليومية هو شيء إعتدنا على ممارستهبشكل تلقائي ومن غير شعور بالذنب او تأنيب الضمير. إن الازدواجية بين ما نظهره وبين ما نبطنه في القيم والمثل العليا والأخلاق والدين والحريات الشخصية والفكرية والديمقراطية وحقوق المرأة، أصبحت جميعها أقنعة نرتديها لعامة الناس سرعان ما نكشفها عن الوجوه في حياتنا الخاصة. هذه في الواقع أقنعة مزيفة نرتديها أمام الآخرين لتحقيق السيطرة والوجاهة الاجتماعية.

إن الفكر السائد الآن في أجزاء كثيرة من المنطقة العربية تغلب عليه الانتقائية في التاريخ وفي الجغرافيا، حيث يشير البعض في كتاباتهم عن غياب الديمقراطية في هذه البقعة من العالم إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، وما رافقها من انقلابات عسكرية، وكأن تاريخ الأمة العربية قبل ذلك كان واحة للديمقراطية السليمة وللعدل الاجتماعي والنزاهة في الحكم.

هذا وصف مختصر لما اصبحت عليه في الوقت الحاضر مجتمعاتنا العربية، وكأن هذه المجتمعات أبت على نفسها ألا تتعلم من مآسيها السابقة عبر التاريخ، مع أن أغلب شعوب العالم المتحضر قد عانت في الماضي مما نعاني منه في الوقت الحاضر، لكنها أخذت من ماضيها دروسا لبناء حاضرها ومستقبلها. حدث ذلك مع الشعوب الأوروبية في القرون الوسطى من خلال تأثرهم آنذاك بأفكار الفيلسوف العربي الأندلسي "ابن رشد"، فكانت المدرسة الرشدية هي وراء الدعوة لاستخدام العقل وتحريك سياقات الإصلاح والتنوير بعد عصور الظلام الأوروبي. كذلك كانت لأفكار الثورة الفرنسية لاحقاتأثيرات كبيرة في شعوب عديدة في دول العالم، وهكذا كان الأمر مع الأفكار والنظريات التي غيرت في اواخر القرن الماضي، مجرى التاريخ في كل من روسيا والصين ودول أوروبا الشرقية.

إن المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع، هو توفر الفكر السليم، الذي يقود ويحرك طاقات القائمين به. فالأمة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة، تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هويات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزز معا وفي وقت واحد الإيمان الديني المعتدل والرافض للتعصب والفتنة، والولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيقة الأخرى، وتأكيد الهوية العربية المشتركة في مجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات، كما هناك الحاجة أيضا لبناء مجتمعات عربية، تقوم على حقوق المواطنة التي لا تميز بين المواطنين على اختلاف اديانهم ومعتقداتهم.