أربعة أشهر و صَوت الشعب لم يهدأ في الشارع اللبناني المنهك والحزين، الذي اعتبر انّ تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة حسان دياب ليست سوى إعادة انتاج للفساد، الذي يتلطّى خلفه أمراء الطوائف الذين احترفوا الخداع والسرقة. وَوسط احتقان شعبي عارم انسَلّ "نوابُ العار" خفيةً وَ كأن أمرًا دُبِّرَ بليل حالك وسط انتشار كثيفٍ للجيش والقوى الأمنية بهدف منح الحكومة الثقة لتجديد سلطتهم، في مسرحية سوداء متوقعة لأدوار متبادلة بين المؤيدين والمعارضين على حدٍّ سواء. لينتهي المشهد بمنح "الثقة" وَ ولادة حكومةٍ يرفضها الشعب، متجاهلين بذلك وجع الناس المقهورة وعذابات المواطنين الرازحين تحت وطأة العوز والفقر والتهميش والحرمان من أبسط الحقوق الآدمية، وضاربين بيدٍ أمنية مشدَّدة أدت الى سقوط أكثر من 280 جريح في صفوف المحتجيين في يومٍ واحد.
و قد انتهت المناقشات "الهمايونية" التي استمرت أكثر من ثماني ساعات، ليصوت 63 نائبًا من مجموع 84 نائبًا شاركوا في الجلسة لصالح الحكومة الوليدة، فيما صوت 20 نائبا ضد منحها الثقة، وامتنع نائب واحد عن التصويت، فيما غاب بقية النواب من مجموع 128 نائبًا الذين يشكلون العدد الاجمالي لنواب الشعب.
ولفهم مجريات الأمور لابد من الإشارة الى نقاط عدة أهمها:
أولاً : غياب النصاب القانوني عند افتتاح الجلسة واكتماله في ما بعد : وبإجماع المراقبين والخبراء الدستوريين فإنّ ذلك لم يكن دستوريًّا أو قانونيًّا أو شرعيًّا على الأقل عند بداية الجلسة فالنصاب لم يكتمل لولا توفير رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط النصاب المفقود، حيث وفَّى بوعده الذي قطعه سابقًا للرئيس نبيه بري مسددًا بذلك صفعة مدويّة للثوار بعد أن كان قد تبنى مطالبهم خلال تحركاتهم الثورية، وفي مفارقةٍ احترفها جنبلاط طويلاً بأن يكون مُمَثلا في الحكومة ومعارضًا لها في آنٍ معًا، وهنا يكمن اللغز االدرزي المحيّر في النظام السياسي الطائفي حيث يلعب على الدوام دور "بيضة القبّان" في حسم التصويت والمواقف في البرلمان وغيره، فيميل إلى هذا تارة ثم يميل إلى ذاك طورًا آخر مستقرءًا الظروف الاقليمية من جهة ودارسًا لحسابات مكاسب الطائفة من جهة أخرى!
ثانيًا: مشاركة الكتل النيابية "المعارضة" بجلسة منح الثقة : وهذه التيارات متمثلة بتيار المستقبل الذي يتزعمه رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، والقوات اللبنانية التي يرأسها سمير جعجع ، و اللقاء الديموقراطي الذي يتزعّمه وليد جنبلاط. فنواب هذه الأحزاب حضروا قاعة البرلمان وأمنّوا النصاب لانعقاد الجلسة كما وعدوا "خصومهم"، ثمّ لإكمال المسرحيّة حجبوا "الثقة" عن الحكومة!
ولو أرادوا فعلا الوقوف مع مطالب الناس - كما قالوا - لقاطعوا الجلسة، ولكن فضّلوا أن يشاركوا في "تهريب" الفساد بذريعة حماية "السلم الأهلي"! وخيرًا فَعلوا، لأنهم بذلك كَشفوا ودون مواربة أنهم شركاء في مستنقع الفساد عينه، وبذلك تكون قد سقطت ورقة التوت عنهم وتعرّوا أمام الشعب وسقطوا من أعين جمهورهم الذي كان يعتبرهم الوجه الأمثل لبناء دولة مدنية بوجه مشاريع إيران وأذرعها في لبنان. هذه الكتل هي التي حاولت ان تركب الثورة وتتبنى مطالبها، لكن مشاركتها بالجلسة كشفت بوضوح أنها تتاجر بمطالب الشعب في بزار المحاصصة الطائفية.
هذه التيارات التي طالما صدعت رؤوسنا بالشعارات المناوئة لسيطرة حزب الله، هي التي أمنت النصاب لحكومة اللون الواحد التي يسيطر عليها هذا الحزب واثبتوا انهم "شركاؤه" على الحقيقة من وراء الكواليس، وذلك لضمان قسمتهم ونصيبهم من كعكة المناصب المذهبية وضمان عدم مسائلتهم عن ملفات الفساد المالي والسرقات التي تورطت فيها معظم القوى السياسية بما فيها تلك التي تدعي النزاهة!
ثالثُا : النواب الذين منحوا الحكومة الثقة هم نواب حزب الله وأعوانه : من أعضاء كتلة "التنمية والتحرير"التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه برّي، و"اللقاء التشاوري"، وكتلة "الوفاء للمقاومة" التي تمثل حزب الله الذي يقوده حسن نصر الله، وكتلة "التيار الوطني الحر" التي يترأسها جبران باسيل ومن وراءه رئيس الجمهورية ميشال عون، وكتلة "المردة" بزعامة طوني فرنجية. وَهذه الكتل تعلن جهارًا نهارًا عن مشروعها الواضح واصطفافها الصريح مع المحور الإيراني في المنطقة ، أما في الداخل فهي مستفيدة من حالة الفوضى واللادولة وجلّ هم حزب الله أن يحتفظ بسلاحه ومؤسساته كلها التي تشكل دويلة عقائدية في قلب دولة مهترئة وهي تدفع بالحكومة الوليدة الى الواجهة الدولية لمساعدته اقتصاديًّا وبالتالي لفك الخناق المالي عن مؤسسات الحزب.
وفي وقتٍ تتطلب فيه المرحلة الحكمة والحنكة لتشكيل حكومة إنقاذ حقيقية تستبعد كل رموز الخراب، وتحتاج إلى ثقة عالية في مرحلة استثنائية ستقودها الى اتخاذ اجراءات وتدابير حاسمة ، ما يوجب توفير اوسع حماية لها من البرلمان على الاقل فإننا نجد أنفسنا أمام قناعٍ جديد من أقنعة إنتاج الطائفية ، بحكومةٍ تدور في الفلك الإيراني وباكورة أعمالها "التزلف" على أبواب الدول المانحة و "التسول" من صندوق النقد الدولي .
أخيرا ، يمكن القول أن هذه "الحكومة" التي نالت "الثقة " تشريعيًّا، و قابلها المنتفضون برفض قاطع و "لا ثقة" شعبية عارمة ، فإن كلمة الفصل فيها ستكون للانتفاضة المدنية التي يصرّ فيها الأحرار على البقاء في الشارع الى حين إسقاط كل الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة عن بكرة أبيها تحت شعار "كلن يعني كلن" والذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة وعاجلة.
التعليقات