هكذا تسرب فيروس كورونا لوجودنا ليذكرنا بما كنّا نهربُ منه دائما خوفا وتحديا. هو الموت هذا المصير المُؤرّق للإنسانية منذ النشأة وعليه خاض الجنس البشري كل الصراعات المريرة من أجل البقاء والاستمرار والتطور. إنها ليالي كورونا الطوال حين كان الإنسان وحيدا متنقلا من خصب لآخر بحثا عن الحياة قبل ان يستقر ويبني ويعمر مُتسلحا بالخرافة ثم بالدين ووصولا الى العلم.

قوّضت الكورونا كل مُعتقداتنا وأولُها أن الإنسان هو الكائن الأكثر تطورا من بين الأحياء. فجأة سقطت ورقة التوت عن كل النظريات والأطروحات العلمية والفلسفية وأغلقت مقولة العولمة "السائلة" أبوابها امام تنقُلات البشر الى فترة ما قبل سقوط حائط برلين.

هناك شيئا أكثر عدلا من العقل الديكارتي "الأعدل الأشياء قسمة بين الناس"، هي الكورونا التي لا تفرق بين غني وفقير ولا حاكم ومحكوم وهي كشبح الموت لا تُؤّمن ملاذات ضريبية للمتهربين مثلما كان الحال في الحروب والازمات والثورات. هي تجعلنا في سلة واحدة تتحكم في رقابنا وتراقب كل تحركاتنا وسكناتنا لتغتنم الفرصة للانقضاض على كل غافل او متهاون او مستهتر. تدفعنا للشك لا للوصول الى اليقين الفلسفي وانما لتزرع فينا الخوف واللايقين.

هذا الكائن الهلامي المتناهي في الصغر رمانا، دون تفكير، على قشة أي أمل ما يمكن ان يشيعه هذا الطبيب او ذلك الباحث والمختص حتى وان كان ذلك من قبيل التحيُل أولمجرد "البوز" الإعلامي. طبعا نصف سكان العالم أصبحوا خبراء في شؤون الجراثيم والفيروسات وخرج الباحث المنغلق عادة، بين جدران عقاقيره وأدواته البحثية المخبرية الى القنوات التلفزيونية نجما وطوقا لنجاة الإنسانية ولكن أيضا كورقة انتخابية ناجحة لرؤساء وزعماء الدول العظمى التي راهنت على البحث العلمي.

لم يكن أحد يتصور ان تعيد الكورونا إحياء الصراع الإيديولوجي القديم بين الاشتراكية والرأسمالية ويعيد التفكير في أنماط الإنتاج ودور الدولة في الاقتصاد وعلاقة المحور بالمركز والهامش. خالت الإنسانية ان هذه الصراعات دفنت مع سقوط جدار برلين وأنها أصبحت مجرد دروس جامعية او مواضيع مناظرات نخبوية من أجل الترف الفكري. في تونس عاد الحديث عن التقسيم العادل للثروات وجشع الكمرادورية والبرجوازية "اللاوطنية" المُتمعّشة من الاقتصاد الريعي وسخاء البنوك، وفي العالم يخبرنا علماء الاجتماع والخبراء الاقتصاديين بأن لا شي سيكون كما كان بعد الكورونا. هل ستجبر الكورونا الإنسانية الى إعادة التفكير في دور الدولة الاجتماعي؟

هل سيكون العالم أكثر اشتراكية والإنسانية أكثر تضامنا؟ هل ستعيد الفردانية الغربية التفكير في جدوى فردانيتها اللامتناهية بعد ان اكتشفت عزلتها وعجزها امام مخاطر الطبيعة؟ هي أسئلة من جملة أسئلة كثيرة وهواجس في ليالي كورونا الطوال.