رغم ان عدد المتعافين يفوق بكثير عدد الوفيات وان جائحة كورونا لم تكن اكثر فتكا من الأوبئة و الجوائح و الكوارث عبر التاريخ بالنظر لتقدم العلم، فإن رائحة الموت تكاد تزكم انوف شعوب العالم. الم تصبح الكورونا بهذا المعني سوى موسيقى جنائزية، نودع بها أحبابنا أو "روكيام" تحضيري لموت ما متربص بنا متخفي في تفاصيل حياتنا اليومية؟

تبدو رحلة الخلاص النهائي طويلة وشاقة ومليئة بالمصاعب تماما مثل رحلة آيدي بندرن بطلة رواية الروائي الأميركي وليام فوكنر "بينما أرقد في حضرة الموت"، رحلتها الى مثواها الأخير، إذ كشفت تصريحات وأرقام منظمة الصحة العالمية بعد قرابة الشهرين من انتشار فيروس الكورونا واعتباره جائحة عالمية، أن كل الإجراءات التي دعت دول العالم للتقيد بها، تهدف فقط الى تأجيل الموت، أو الاستعداد لتقبله كما يجب، في أحسن الحالات، نفسيا أولا ولوجيستيا خاصة.

بشّر دونالد ترامب الشعب الأميركي بأن عدد المتوفين سوف يرتفع و حمل مسؤولية ذلك لمنظمة الصحة العالمية لأنها حسب زعمه قدمت معلومات مغلوطة عن الكورونا، هكذا تصبح نظرية المؤامرة عربية الصنع و المنشأ أميركية بحتة !!فيما سارع رئيس الوزراء البريطاني جونسن منذ البداية مقتديا بمستشاريه في الطب، الى دعوة البريطانيين لوداع احبابهم في حين بدأ العالم كله اقرب الى قبول مآلات نظرية "مناعة القطيع" ما يعني خسارة اكبر عدد من البشر في سبيل مناعة ذاتية للبقية في انتظار اكتشاف اللقاح، ففي نهاية الأمر لا احد يمكن الآن ان يحسم متى ستكون ذروة الفيروس أو زمان أفوله و ان كان المتعافون سوف يصابون به مرة أخرى أو لا. في كل الحالات ستكون هناك وفيات وبالآلاف.

كان الاعتقاد راسخا بأن الخلاص من جائحة كوفيد19مرتبط أساسا بمدى التزام البشر بقواعد الحجر الصحي غير اننا اكتشفنا ان هذه العملية على أهميتها وضرورة الالتزام بها، هي عملية تهدف الى تقسيم الوفيات في الزمن وتقليص الضغط على اسرة الإنعاش وربما التخفيض قليلا من عدد الوفيات ولا تهدف الى إيقاف النزيف نهائيا. فالأرقام والإحصائيات تفيد بأن ذروة الفيروس في تونس سوف تكون بين شهري جويلية وأوت وان عدد الوفيات سوف يتروح بين عشرة الالاف وخمسة عشر الفا.

هي كورونا الموت الغامض أيضا. قد تفاجأك بتعافي شيخ في التسعين في اسبانيا وتقصف بحياة شابة في مقتبل العمر في فرنسا، وهذا الغموض هو الذي يدفع بالإنسان الى الحيرة والخوف وتصديق ما لا يمكن للعقل السوي تصديقه، لذلك وفي كل الأزمات تنتشر الإشاعات ويكثر الدجالون وتقوى الخُرافة والشعوذة والسحر. أمام الموت وفي غياب الحلول يبحث الإنسان العاقل مهما كانت درجة "عقلانيته" عن طوق نجاة لأن الطبيعة جعلت غريرة الحياة لديه اقوى من غريزة الموت.

إن شبح الموت الجاثم على صدورنا، يدفع العالم بأسره الى إعادة التفكير في المنظومات الصحية والاقتصادية والإجتماعية المهترئة. ابستمولوجيا تبنى النظم الجديدة على أنقاض خليفتها، قد تأخذ منها قليلا وقد تتركها دون رجعة، لأن العلم والمعرفة يُبنى على التراكم كما أن لكل عصر أدواته ومفاهيمه ومفاتيحه تتغير بٍتغيُر نظرة الإنسان للاشياء المحيطة به وطريقة تفاعله معها، لذلك فإن جائحة كورونا وتجربة الموت المريرة سوف تدفع الإنسانية الى صناعة "صندوق أدوات" جديد على أنقاض صناديق الموت المنتشرة، بغاية إعادة الفهم والتحليل ومن ثمة بناء نظام عالمي جديد. هنا فقط وإذا اجتمعت الإرادة الخيرة مع الاتعاظ بنتائج تجربة الكورونا، يمكن للإنسانية ان تعزف سنفونية "السعادة" بدلا عن "روكويام" موزارت.