يتساءل عالم الاجتماع الألماني "الريتش باك" في كتابه "مجتمع المخاطر" ماذا سيحل بسكان قارة بأكملها إذا ما أصابهم التلوث بمختلف درجاته بشكل يستحيل معه الشفاء؟ هل بالإمكان وضع بلاد بكاملها تحت الحجر الصحي؟ هل نصل الى فوضى داخلية؟ او هل نحن مجبرين في نهاية الامر على الاستمرار بالتصرف كما كنا نتصرف بعد تشرنوبيل؟ تساؤلات ربما نجد صداها الآن وبعد كل كارثة وجائحة يمكن ان تصيب الإنسانية بأكملها وتدُك بُناها الاجتماعية والاقتصادية دون رجعة مثلما يحصل الآن مع جائحة كوفيد19، بعد ان تنبأ "باك" بذلك قبل أكثر من ربع قرن.

تدخل حالة الانهيار هذه ضمن حقل مفاهيمي أوسع كانت الإنسانية قد عاشته كالخوف والشك والريبة والعزلة جراء الإرهاب والعنف والحروب والتغييرات المناخية والأزمات المالية المتعددة من الكساد الكبير سنة1929، الى الأزمة المالية في 2008. كانت معاول علم الاجتماع الكيفية والكمية حاضرة وبقوة في كل هذه المحطات، من زاوية الفهم والتحليل والتفسير والاستشراف.

تجيب "الكورونا" على أسئلة "الريتش باك" إذ وجد سكان العالم أنفسهم، فعليا، في حجر صحي إجباري وسط تخبط كبار قادة العالم حول كيفية التعامل مع هذه الجائحة للخروج منها بأخف الأضرار الصحية والاقتصادية، وغموض حول تشخيص الكورونا المستجد وآليات مقاومته.

نفهم من خلال كتاب عالم الاجتماع "باك" مجتمع المخاطر الصادر سنة1986 بأن المخاطر التي تصيب الإنسانية، سواء الطبيعية مثل الكورونا، أو المصطنعة و"المبنية إجتماعيا" والصادرة عن المخابر العلمية والبحثية مثل كارثة تشرنوبيل او هيروشيما، تؤثر بدورها على المجتمع في كليته وفي تفاصيله حيث تساهم في إعادة بناء العلاقات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد وفي تغيير أنماط العيش.
بعد الكورونا او بعد تشرنوبيل كما تساءل "باك"، هل سنتصرف كما كنا؟ كيف مثلا سوف تتقبل الشعوب المتعودة على إلقاء التحية بالأيدي والاحتضان والقُبل، التباعد الاجتماعي التي يبدو انه سوف يصبح قاعدة في حياتنا اليومية حتى لسنوات بعد الكورونا وقِس على ذلك العادات و التقاليد من افراح و مآتم و أعياد و لقاءات و غيرها من المعاملات اليومية التي تنسج العلاقات الإنسانية في مجتمعات عدة؟

علم الاجتماع مثله مثل العلوم الطبيعية والجرثومية وغيرها من العلوم الصحيحة، دأبت على "رصد" هذه التحولات الاجتماعية الناتجة إما عن تغيير نمط الإنتاج او تغيير نظم الحكم، (ملكي، جمهوري) والذي يفرز بروز طبقات اجتماعية وانهيار أخرى، او ايضا ما تسببه الكوارث الطبيعية او الكوارث الناتجة عن العلم نفسه، من تحولات تصبح موضوع علم الاجتماع و "مختبراته".

منذ إعلان فيروس كورونا جائحة من طرف منظمة الصحة العالمية في مارس الماضي، سعى أساتذة وعلماء علم الاجتماع الى فهم جائحة كورونا كظاهرة اجتماعية وتحليل انعكاساتها المحتملة على الأفراد والمجتمعات ودراسة تداعيات الأزمة الكونية التي خلفها انتشار فيروس كورونا.

عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين، خلص إلى “أن العالم لم يعد كما كان، حيث إنه يشعر اليوم بالخوف " مضيف في حوار صحفي تداولت عديد المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي "في الحقيقة، هناك غياب الفاعلين، وغياب المعنى، وغياب الأفكار، بل حتى الاهتمام؛ ما يبدو واضحا الآن هو تفضيل الفيروس (كورونا) استهداف كبار السن. كما ليس لدينا إلى حدود الساعة علاج ولا لقاح. ليس لدينا أي سلاح، أيادينا فارغة، نحن محبوسون ومنعزلون.. مهجورون. يجب علينا ألا نتصل ببعضنا البعض، وفوق هذا وذاك يجب أن نلزم البيت. هذه ليست حربا!".

أما زميله ميشيل فييفيوركا، عالم اجتماع فرنسي من أصول بولونية فيرى أنه لمن الممكن أن تتغير أوضاع العالم تماما بعد كوفيد-19 عما كانت عليه قبله، وستتغير معها تصنيفاتنا، ومفاهيمنا بصفة عامة اذ ان جائحة الوباء المستجد، حسب رأيه" قد أعادت إلى الساحة الفكريةِ النقاشَ الدائر حول سؤال مذهبي طالما شغل أذهان الكثير من المفكرين لسنين طويلة: أليس نظام تركيز السلط في يد واحدة أفضل من حيث الجدوى والفاعليةِ من النظام الديمقراطي، خصوصا فيما يتعلق برفاهية الشعب، وبالأمن والصحة؟ ما أحوجنا اليوم إلى الخروج من هذه المفارقة بجواب شاف".

في تونس أيضا كان موضوع جائحة كورونا مبحث الأساتذة والباحثين في علم الاجتماع، وذلك من "نفس منفذ الانعزال والعزلة والتباعد والفصل" بحسب تعبير الدكتور منير السعيداني في مقاله بموقع أكاديميا بعنوان "فيروس الكورونا في مختبر... علم الاجتماع".
يكتب أستاذ الجامعة التونسية "من نفس منفذ الانعزال والعزلة والتباعد والفصل يدخل فيرس الكورونا إلى، مختبر علم الاجتماع لأنه بالضبط يجبر ساكنة العالم المتصل الممتد على إعادة بناء الصلة الاجتماعية. وبالفعل، هو يجبر أفرادها على الحد من الاحتشاد والاجتماع والاتصال والتواصل والتلاقي والتصافح والتعانق والتجالس والتحادث والتقارب والتلامس وتبادل القبل، أي من التساند حسا ومعنى وبعث الدفئ الإنساني من خلال التواصل الجسدي ولكنه بالمقابل يدعوهم إلى تغيير أشكال تواصلهم الاجتماعي وإقامتهم روابطهم".

في ورقة بحثية أخرى يصف منير السعيداني المجتمع الذي نعيش فيه الآن ب"مجتمع الجائحة" و لا يرتبط ذلك بتفشي فيروس الكورونا فحسب و إنما لأننا حسب رأيه "نعيش منذ عقود الإنتشار الجائح للعديد من مظاهر الحياة و من الظواهر و الممارسات و المشاعر والإنفعالات".

ويضيف الباحث التونسي في توصيفه لمجتمع الجائحة بكونه مجتمعا "منشطرا على نفسه بالنسبة الى الجائحة ذاتها بين موعودين بالنجاة وصائرين الى هلاك وبالنسبة الى التعاطي معها بين رعاة الصحة ومضاربين بالموت".

يركز الباحث في علم الاجتماع ماهر حنين في دراسة حديثة عن "مجتمع الهامش" على المهمشين في المجتمع التونسي وأشكال تفاعلهم مع جائحة كورونا، إذ عكست جائحة الكورونا هشاشة المجتمع التونسي وبينت حقيقة ارتفاع معدلات الفقر(طالب اكثر من مليون تونسي بمساعدات تقل عن مائة دولار)، بما يجعل من هذا "الهامش"، الذي اصبح يمثل اكثر من عشرين بالمائة من الشعب التونسية، ظاهرة اجتماعية حرية بالدراسة و البحث.

الدراسة الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان: "سوسيولوجيا الهامش زمن الكورونا الخوف - الهشاشة - الانتظارات " يطرح فيها الباحث بعض الأسئلة: كيف عاش مجتمع الهامش والهشاشة في تونس هذا المنعطف؟ كيف تمثّل الازمة وتداعياتها؟ هل كان يتملك وسائل التوقي والحماية اللازمة المادية والمعنوية؟ ثم ماهي تطلعاته المستقبلية وهو لا يزال ينتظر منذ عشر سنوات بعد الثورة حقيقة التغيير في حياته اليومية؟

يستنتج الباحث بأن كل مجتمع ينتهي الى "انتاج مهمشيه ومنبوذيه وغربائه. في كل زمان ومكان هناك افراد يعيشون على هامش المجتمع في مواجهة مع الرأي العام والثقافة الشعبية والتقاليد الاجتماعية وضغط، وتمت ازاحتهم من الدائرة الاجتماعية ومن الوحدة الوظيفية للكُل الاجتماعي".

وتكشف الدراسة ما كان مسكوتا عنه في تونس أو ما يصفه الباحث "القاعدة الاجتماعية التي كشف عنها فيروس كورونا الحجاب وزعزع توازنها الهش اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا". وهي تمثل 700 الف عاطل عن العمل و285 الف عائلة معوزة و70 الف عامل حضيرة و622 الف عائلة ذات دخل محدود و380 الف متقاعد تقل جرايته عن الاجر الأدنى المضمون بالإضافة الى 70 بالمئة من اليد العاملة الفلاحية وهي نسبة العاملات في هذا القطاع.