نظريا، وفي عالم آخر غير الذي نعيش فيه الآن من المفترض ان تكون لنا في تونس محكمة دستورية تزخر بزُبدة النخبة في لقانون الدستوري الذين لا يرقى لأعضائها أدنى شك وهيئة دستورية لمكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة تملك من الاليات القانونية والردعية ما يخول لها كبح جماح الفاسدين والمتواطئين معهم. نظريا أيضا وبعد عشر سنوات من ثورة الربيع العربي، المحملة بالشعارات والآمال كان من المفترض ان تُنظم المشهد السمعي البصري هيئة دستورية وقوانين تؤسس لمشهد اعلامي راقي يليق بدولة ديموقراطية رغما عن كل شي.

ما نعيشه اليوم من مناكفات ومناورات سياسية لم يخرج عن بدايات الثورة حين كانت النخبة السياسية الجديدة بكل أطيافها تحاول ان تجد موطئا لها في الفضاء العام والمؤسساتي عن طريق التدافع والسيطرة والهيمنة. وكان الجو العام ومازال يسوده الشك والريبة وغياب تام للثقة بين مختلف الفاعلين السياسيين. فكانت كل محاولة او مبادرة للخروج من فوضى ما بُعيد الثورة وبناء اركان الجمهورية الثانية محل شك ورفض مباشر، حتى وان كانت هذه المبادرة سوف تُخرج نصف الشعب التونسي من الفقر وتجعل من اقتصادنا مثيلا لإقتصاد النمور الآسيوية.

بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة، ما تزال النخبة السياسية تراوح مكانها وكأن النخبة ومن ورائها الشعب المغلوب على امره يدور في حلقة الصراعات الأيدولوجية المفرغة والترذيل المتبادل شعارهم في ذلك تحطيم المعبد على من فيه رغم ان الحس السليم يقول ان الحيلة في ترك الحيل. فما الذي يمنع السياسيين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم من الاتفاق حول إرساء الهيئات الدستورية التي بقيت الحلقة الأضعف في مسار الثورة؟ أو الانكباب على إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي هي في جزء كبير منها مرتبطة بمتغيرات دولية ومناخية وآخرها وبائية لا يمكن لأي دولة مهما كانت درجة جاهزيتها التنبؤ بحدوثها.
يقول الباحثون في تاريخ الانتقال الديموقراطي ان عشر سنوات تعتبر فترة زمنية قصيرة نسبيا حتى تتمكن الدولة من الاستقرار وبناء مؤسساتها الدائمة وهيئاتها الدستورية خاصة اذا كانت الأحزاب نفسها، عماد الحياة السياسية الديموقراطية غير مستقرة. ان ماهو مقدور عليه في هذه الحالة على الأقل وحتى لا نتحول الى دولة فاشلة تسوسها المافيا هو التوافق حول مشروع وطني قومه مقاومة الفقر والفساد وتثبيت اركان الديموقراطية التي لا يمكن اختزالها في اجراء انتخابات حرة ونزيهة.

إن الانتخابات الحرة عملية جيدة في مسار طويل لا يجب ان يحجب الغابة، لأنه لا معنى لانتخابات تدار في بلد تكون فيه حرية الصحافة مهددة بالتراجع في كل لحظة وفي ظل مجتمع مدني محاصر وأحزاب فقدت شيئا فشيئا رأسمالها الرمزي تجاه ناخبيها وقضاء تابع او ما نسميه "بقضاء التعليمات".

ان السلط المضادة المستقلة ومبدأ فصل السلط من منتسكيو الى يومنا هذا هما اركان الديموقراطية الراسخة. يمكن ان نستعمل الخطاب المزدوج ذاته كما كنا لنبيع للعالم ما يريد شراءه في سوق نجاحات التجربة التونسية في دول الربيع العربي، لكن ذلك لن يغير في واقع الأشياء بل يبقى مجرد مسرحية سمجة غايتها ربح الوقت وذر الرماد على العيون.

لو نطبق حسابات الربح و الخسارة و كنا نوع ما براغماتين كغيرنا من دول العالم الحر الذي تَعلم من تجاربه عبر التاريخ إحترام عامل الزمن اوفهم قيمته التي لا تُعوض، الم نكن سندّخر جهدنا حكومة و رئاسة و برلمانا و شعبا لو تم إرساء المحكمة الدستورية قبل أعوام من الآن؟ إذ أن أغلب المعارك الطاحنة في سوق الساحة السياسية التونسية المعلنة والخفية بين رئيس الجمهورية وحركة النهضة الإسلامية هي حول تأويل فصول الدستور لتحديد صلاحيات كل طرف، حتى صار العراك يتصدر صفحات المواقع الاجتماعية والصحف في ترذيل لمؤسسات الدولة لم تشهد له البلاد مثيلا في تاريخها.

ان المؤكد الآن ان نخبتنا السياسية ذات "السترات البيضاء"، سوف تُلقي بفشلِها في استكمال إرساء المؤسسات الدستورية على ظهر جائحة الكورونا، وفي الأثناء ستُواصل البلاد خسارة نقاط نمو جراء انتشار الفساد وسيتواصلُ الصِراع داخل وخارج مجلس نواب الشعب من أجل فرض كل طرف لمرشحه للمحكمة الدستورية وبقية الهيئات حتى وان كان ذلك على حساب الكفاءة، مثلما جرى قبل قرابة العامين، كما سَتستمرُ معركة الإعلاميين مع من لم يستوعبوا بعد ان التاريخ لا يُعيد نفسه بأي شكل من الأشكال. إنها ليست نظرة متشائمة بل هو استقراء للمستقبل بناء على قراءة للماضي، ففي الطبيعة كما في تاريخ الشعوب نفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج. فما اشبه الأمس باليوم.