عندما كانت الأحبار تسيل من مطابع بيروت يوم كانت القاهرة تكتب وبغداد تقرأ، كان حال الأمة العربية مشجعاً ومستقبل المنطقة واعد، وعندما تحولت تلك الأحبار إلى دماء والفضاء إلى دخان وأشلاء، أضحت المنطقة محتقنة وتوشك على الانهيار الكامل.
تعطي بيروت صورة مصغرة ولكن صريحة عن الوضع العربي العام، سويسرا الشرق يوم كانت المنطقة مقبلة على وجه الحياة، انفجر قلبها الآن من شدة اليأس، في مشهد مروّع يجهر المدينة المشلولة الشاحبة وهي تخسر أسباب الحياة رويداً رويداً.
بيروت واحدة من قائمة المدن والحواضر العربية التي كانت ذات يوم منارات العلم والثقافة والمعرفة والفكر، انضمت الآن إلى طابور المدن الشاحبة مثل جاراتها دمشق والقدس وبغداد وصنعاء وطرابلس، وبقية باقية من العواصم الجوهرية التي تعيش على الحد الأدنى من ضرورات البقاء.
كان مشهد الانفجار المدوّي بطريقة سينمائية يقفز من حافة المدينة، وكأنه زفرة صدر مكتوم، تجثم عليه هالة ثقيلة من الإحباط وركام من المتاعب والمشاق، قذفت كرة اللهب المتصاعدة والمحفوفة بغلاف الدخان المسموم بغبارها الهائل، لينسف هامات المباني ويقتلع السيارات وينقضّ بقسوة على الواجهات الزجاجية ويشوّه وجه المدينة.
كانت عيون العالم كلها شاخصة، تشهد على موت مدينة دفعة واحدة، العرب ينظرون بألم مكتوم وهم يشاهدون حاضرة أخرى تعلن هزيمتها المنكرة أمام وجع سياسي وعجز كامل يشلّ أطرافها ويمنعها الحياة.
بعيداً عن مشهد العزاء العام، وخطابات الرثاء التي اندلقت تعويضاً عن حالة العجز العربي، بدأت تتواطأ أخبار وتتسرب أنباء عن كون الانفجار نتيجة فعل مدبّر، وبكل الأحوال، أكان نتيجة طبيعية لوحل الفساد والإهمال والتسيب الذي لا تنكره بيروت أو تجهله، أو هجوماً خارجياً، فإن العامل السياسي متورط بالواقعة.
وُضع لبنان على خط النار دائماً، ارتهانه أخيراً لمحور زعم المقاومة، والمغامرة بمستقبله واستقراره الهش وتركيبته المؤهلة للانهيار، لترجيح كفة لاعبين إقليميين، جعل من الانفجار مجرد مشهد تفصيلي صغير ضمن إطار اللعبة الكبرى التي تورط فيها لبنان.
صنعاء وبغداد والواقعتان هي الأخرى تحت نير المعادلات الشاقة وعلى أهبة الانفجار في وجه أهلها خدمة للراعي الإيراني في طهران، تحسستا مواقع النار النائم في أكنافها، وأحزمة الذخائر المحشوة في أطرافها، خشية من تكرار سيناريو مرفأ بيروت، تنادت لتفحص مواضع الخطر والشرر التي يمكن أن تنطوي على فرص لقتل ما بقي من روح البلد الذبيح والمسجى على شفا الموت النهائي.
هدايا المرشد القاتلة، وأجواء الإحباط الماثلة في كل المدن والعواصم العربية التي تئن من وطأة الملالي وسيطرتهم على مقاليد الأمور في بلادهم، يرغم شعوبها على دفع فاتورة باهظة ومكلفة.
يمثّل لبنان حالة فشل عربي تتكرر لدى الكثير من جيرانه في هذا الشق من العالم، فشل داخلي بالعجز عن إنتاج حالة سياسة مثمرة وفعّالة، وفشل آخر خارجي، بالسلامة من لعنة المعادلات الإقليمية والارتهان للحسابات الدولية، عجز وفشل معجون بالفساد ومركبات الشلل الحكومي والقصور والإهمال والتسيب.
عندما هتفت جماعة من الناقمين للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووقعوا على عرائض لعودة الاستعمار، كان موقفاً انفعالياً لكن كافياً لإثبات حالة العجز واليأس والتوقف عن ابتكار الحياة في نفوس اللبنانيين، البلد الذي دفنت في ترابه عظام العربية الفصحى، ومنه جأرت القومية العربية بصرختها، وجزّت فوق مقاصله رقاب رواد النهضة الأولى ضد انفراد العثمانيين وبطشهم، أصبح نهباً بين رايات صفراء تهتف لإيران، وحناجر ثكلى تتضاغى لعودة الاستعمار.
مثّلت سيطرة ميليشيا حزب الله على مفاصل لبنان، نهاية فصول بلد يقاوم للحفاظ على استقلاله، يكابد للوقوف على محجة الاعتدال في موقفه، بمنأى عن خدمة أجندة الآخرين أو الانضواء في مشاريعهم الأيديلوجية، لكن الحزب بكل صلفه حول شباب البلد إلى مشاريع للموت في جبهات الآخرين، ولفّ مستقبل البلاد بكفن سرمدي يجهزه للتلاشي الكبير والانمحاء العظيم من خارطة الوجود.
الواقع أن بيروت تدفع ثمن كل الأخطاء التي جرت على أرضها، وأكثرها فداحة هو سيطرة وتحكم حزب موتور يدار بأيادٍ خارجية، مكرهة على ذلك غير راغبة، ستدفع بيروت تكلفة اللكمات والضربات الاقتصادية والسياسية وربما العسكرية بالوكالة، سيستنزف هذا من رصيدها في الحياة، وسيقربها أكثر لإعلان الموت النهائي، بعد أن اكتسبت على وقع الفاجعة الأخيرة صفة مدينة منكوبة، يا للعجز.
التعليقات