يعد لبنان بحق فسيفساء الأديان والمذاهب؛حيث تواجدت على أرضه الأديان السماوية الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية، والتي انقسمت بدورها إلى ما يقارب 18 طائفة ومذهب ،وهذا التنوع كان نقمة –للأسف -على لبنان؛ فبدل أن يكون عامل تنوع يثري الحياة اللبنانية تحول إلى عامل فرقة وانقسام بسبب تعصب أغلب طوائفه لمعتقدهم الديني والمذهبي؛ وهو ما أوصل هذا البلد إلى حروب ومذابح أهلكت الحرث والنسل .
وقد كان من أشهرها الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 واستمرت لمدة خمسة عشر عاما والتي انطفأت نارها بوساطة سعودية في 30 أيلول / سبتمبر 1989 والتي توجت بعقد اتفاق الطائف أو وثيقة" الوفاق الوطني اللبناني"، والتي نصت على تقاسم السلطة مناصفة بين المسيحيين والمسلمين وعلى التعايش بين الطوائف اللبنانية.

لكن وبحسب رأي- أحد الكتاب اللبنانيين- فإن "خشبة الخلاص هذه سُرعان ما تحوّلت إلى نقمة على الشعب اللبناني الذي راح يترحّم بعد الاتفاق على زمن الحرب الذي استُبدل بسنوات فقر وجوع وقهر، نتيجة الممارسات السياسيّة التي أعقبت "اتفاق الطائف" من خلال تكريسه زعامات سياسيّة ما زالت حتّى اليوم تتحكّم بالبلاد ورقاب العباد".

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا يتعثر مشروع التعايش والتوافق السياسي بين اللبنانيين حتى اليوم؟

يبدو لي أن الطائفية السياسية التي تتحكم في القرار السياسي اللبناني هي العامل الأساس في حالة الاستعصاء السياسي والتأزيم الدائم في هذا البلد؛ حيث أن الاستقواء بالطوائف والذي تسلكه بعض أطراف النخبة السياسية هو الذي يقود لبنان إلى جحيم دائم لا تكاد تنطفئ حرائقه بحيث أن البعض قد وصفه بدولة " ملوك الطوائف"!

إن هذا الواقع البائس للمشهد السياسي اللبناني لا يكاد يثير حمية النخب الحزبية الممسكة بمفاتيح العملية السياسية؛ حيث أن أغلبها على ما يبدو يفضل بقاء هذه الوضعية التي تديم لهم الجاه والسطوة ، مما يفاقم مأزق الحالة الديمقراطية الهشة التي يطلق عليها بعض المحللين السياسيين ب "ديمقراطية الطوائف".

لقد أخفقت الطبقة السياسية الحاكمة منذ اتفاق الطائف حتى الآن بإخراج لبنان من حالة المحاصصة المعطلة لصناعة قرار وطني عابر للطوائف والمكونات؛ مما أدى إلى حالة من الشلل التام في عروق الدولة اللبنانية التي تيبست بسبب تمترس الجميع خلف الطائفة -القبيلة السياسية- في مشهد يكاد يتطابق مع نظرية توماس هوبز المتمثلة في "حرب الكل ضد الكل".

أدت هذه التركيبة الفسيفسائية التي مزجت الدين بالسياسية والسياسية بالدين إلى تسيس الدين وتديين السياسية في بلد يصفه بعض ابنائه بالعلماني!

فعن أية علمانية يتحدث هؤلاء؟ فالأغلب يحتكم للهوية الدينية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية الجامعة؛ حيث إن الانتماء والولاء للمرجعيات الطائفية مقدم على المرجعيات الدستورية والقانونية، مما أبقى المشهد اللبناني أسيراً لهويات متعددة قاتلة وفاقدة للذاكرة؛ بحيث أنهم يتناسون تاريخهم البعيد والقريب الذي تمخض عنه حرب عام 1975و التي قدرت خسائرها بنحو 25 مليار دولار أمريكي، و 150 ألف قتيل، 300 ألف جريح و17 ألف مفقود؟!
صراع من أجل التحرير
بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 تاركة جنوبه لأهله باستثناء بعض المناطق فيه: مزارع شبعا وتلال كفر شوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر؛لهذا تبنى حزب الله نظرية ضرورة بقاء "مشروع المقاومة" حتى استعادة كافة الأراضي اللبنانية؛ لكن هذه الرؤية لم تلقى قبولاً لدى كل أطراف العملية السياسية في لبنان الذين يحصرون حق استرجاع هذه المناطق بالدولة اللبنانية وجيشها من خلال استراتيجية "دفاع وطني"يشارك فيها الجميع تقوم على أن يكون السلاح وقرار السلم والحرب في لبنان بيد الجيش والدولة اللبنانية.

لذلك أضحى موضوع السلاح أحد عوامل التأزيم بين الفرقاء اللبنانيين ، وما زال يشطر الساحة اللبنانية إلى فريقين متعارضين يتبادلان الإتهامات و المناكفات السياسية في متوالية أدخلت لبنان في أزمة سياسية ما زالت مشتعلة حتى الآن.
و هنا أريد أن أخاطب قيادة حزب الله بصفتي مسلم سني محب لآل البيت وأهله،وليس لدي عداء تجاه التشيع المذهبي، ولست من أصحاب الأقلام المأجورة بل إنني أكتب من وحي محبتي للبنان العربي الجميل الذي أتمنى له أن يخرج من نفق الأيديولوجيا والمحاصصة السياسية لصالح هويته الوطنية وانتمائه لمحيطه العربي؛فأقول لهم:لماذا لا تقومون بطرح مبادرة "تاريخية"خلّاقة تصلون من خلالها إلى اتفاق نهائي وشامل بشأن"الإستراتيجية الدفاعية" مع الفريق المعارض لرؤيتكم، بحيث تسحبون أحد أكثر فتائل التأزيم والتوتير في الساحة اللبنانية التي قد تودي بلبنان إلى المجهول؟

إقطاع سياسي
أوصلت الطبقة السياسية في لبنان المواطن اللبناني إلى المطالبة بعودة الإنتداب الفرنسي ، ألا يثير هذا المطلب حمية هؤلاء الساسة على وطنهم،وهل وصل شعب لبنان إلى هذه المرحلة عبثاً ؟!أم أنه إحباط وقنوط اللبناني من ساسته ويأسه من صنّاع القرار في هذا الوطن المبتلى بالإقطاع السياسي القائم على المحاصصة الطائفية؟

إن الإقطاع السياسي قد زج بوطنكم العزيز علينا في أتون جحيم الفقر والفساد والتشرذم وضياع الهوية الوطنية الجامعة لصالح الهوية الفرعية، التي أفقدت لبنان لحمته ووحدته السياسية والاجتماعية؛ لقد حوّلتم لبنان إلى أرض غارقة بالقمامة المتراكمة في شوارعه بعد أن كان يسمى "سويسرا العرب" ؟!
يا ساسة لبنان الحق أقول لكم: لقد ساهمتم بنرجسيتكم في ذبح لبنانكم من الوريد إلى الوريد؛ فلا أدري هل تكرهون وطنكم إلى هذا الحد؟

لقد صدمني وصدم كل ذي ضمير حي حجم الدمار الهائل الذي نتج عن انفجارات ميناء بيروت؛ بيروت ست الدنيا التي اغتالتها منظومة الفساد السياسي المستشرية بين شرائح من النخبة السياسية اللبنانية ما يجعلنا نتساءل مع نزار قباني :
من سمّمَ ماءَ البحرِ
ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ الورديّهْ؟
فهل تبقى مقولة "هي الحرب إذن" شعار الفرقاء اللبنانيين إلى الأبد يحرقون بها الأخضر واليابس، أم يكون التوافق الوطني المفضي إلى "عقد اجتماعي" جديد هو طوق النجاة الذي سيخرج بلادهم من أسر السجون الأربعة "الذات و التاريخ والمجتمع والطبيعة"؟