مرّت القضية الفلسطينية بمراحل ومسارات عديدة منذ لحظة قيام دولة إسرائيل مروراً باتفاقية أوسلو عام 1993 حتى الآن، وسأناقش في مقالي هذا بعض المحطات التاريخية والسياسية المهمة التي مرت بها القضية والتي أثرت جذرياً على مسارها ومآلاتها الراهنة.
واتساءل هنا :هل أضاع الفلسطينيون فرصاً كانت قد أتيحت لهم لإنهاء صراعهم مع إسرائيل؟
لقد رفض العرب والفلسطينيون قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947؛ حيث نص القرار على تقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية مساحتها ما يقارب 56.5%، ودولة عربية مساحتها ما يقارب 43.5% وإبقاء القدس تحت وصاية دولية، وبذلك فقد أضاعوا فرصة ثمينة حيث كان بإمكانهم إقامة دولتهم المنشودة على مساحة تقترب من نصف مساحة فلسطين التاريخية!
يا لها من مفارقة ستتكرر لاحقاً في محطات أخرى وبنفس العقلية السياسية التي تطالب بكل شيء أو لا شيء، ما يدل على خلل بنيوي عميق في البنية الثاوية من قارة اللاوعي التي تتحكم في العقل السياسي العربي عموماً والفلسطيني خاصة، وهذا ما سيظهر جلياً في سردي لمسار القضية الفلسطينية التي وصلت إلى طريقها المسدود ومأزقها الحالي.
جاءت الفرصة الثانية في العام 1977 حين بدأ الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات مفاوضات سلام مع إسرائيل؛ فقد رفض الفلسطينيون الإنضمام لهذه المفاوضات، والتي كانت القضية الفلسطينية جزءاً مهماً منها؛ حيث قضت وثيقة تضمنتها اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية: بإقامة حكم ذاتي كامل للفلسطينيين في الضفة والقطاع، وقعت عليه أطراف كامب ديفيد الثلاثة (مصر وإسرائيل وأمريكا) عام 1978.
وكما نصت هذه الوثيقة التي رفعت القاهرة السرية عنها مؤخراً، على البدء بترتيبات"إنتقالية بالنسبة للضفة الغربية وغزة لفترة لا تتجاوز خمس سنوات "ورسمت خارطة طريق لإقامة حكم ذاتي يشبه ما جاء في نص اتفاقية أوسلو التي وقعت في 13 سبتمبر 1993.
كذلك انتهج الفلسطينيون السلوك نفسه حين رفضوا التوقيع على اتفاقية تسوية طرحت عليهم في مفاوضات كامب ديفيد الثانية عام 2000، والتي كانت برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الذي علق على فشلها بقوله: "إن عرفات إرتكب خطأ برفضه إبرام اتفاق في كامب ديفيد وبأنه فوت فرصة ذهبية في العام 2000".
وقد حاول الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب أن يساهم في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال طرحه لخطة سلام عرفت ب"صفقة القرن" والتي وصفها ترامب بقوله:"قد تكون الفرصة الأخيرة للفلسطينيين"،ولكن القيادات الفلسطينية رفضتها كعادتها وعلى رأسهم محمود عباس الذي قال عنها :"لن تمر وستذهب إلى مزبلة التاريخ"!
وهذا كله يجعلني اتساءل هنا :هل يتآمر الساسة الفلسطينيون على شعبهم من خلال سياسية اللاءات والرفض الدائم؟!
والذي يثير عجبي في ظل هذا السياق "السريالي"المنافي للواقعية السياسية؛موقف حركات الإسلام السياسي :كحركتي حماس والجهاد اللتان تتفيأن بظلال اتفاق أوسلو؛ فهما ترفضانه على الصعيد النظري وتتعاطيان معه على الصعيد العملي! فحركة حماس تحكم في دويلة غزة التي أقامتها بفضل السلاح الإيراني،بينما ترفض حركة الجهاد التي تدعمها إيران المشاركة في مؤسسات الحكم ولكنها تتعاطى معها على الصعيد اليومي!
أصبح الرفض المطلق شعاراً في كل هذه المحطات،وآلية يحترفها العقل السياسي العربي عامة والفلسطيني خاصة بل أنه صار حالة مرضية مزمنة، بحيث أصبح التاريخ يعيد نفسه على جسد جغرافيتنا التي أنهكتها الحروب والصراعات العبثية!

القيادة الفلسطينية
دعم العرب القضية الفلسطينية على مر تاريخها، وأعتبروها لعقود طويلة قضيتهم المركزية الأولى؛ لذلك قدموا لها كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي وساندوها في كل المحافل الدولية، ولم يبخلوا عليها بمليارات الدولارات التي لا يعرف أحد أين ذهبت؟ حيث تشير عدة تقارير ودراسات إلى أن حجم الفساد المالي الذي أدى إلى ظاهرة الاختلاسات في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، قد بلغ ما يقارب 32 مليار دولار؟!
وتأسيساً على ما طرحته آنفاً، حول نهج القيادات الفلسطينية المتعاقبة في التعاطي مع ملف القضية الفلسطينية ؛فإنني أزعم بأن العقلية السياسية التي أدارت –وما زالت- هذا الملف غير مؤهلة لذلك،فهي على ما يبدو تمارس لعبة سياسية خطيرة تقوم على إدارة الصراع وليس حلّه!
إن الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره عانى وسيبقى يعاني من أداء هذا العقل السياسي العقيم الذي أدار شؤون قضيته على مر عقود من الزمن وزج به في أتون الضياع والتشرد.
لقد آن للشعب الفلسطيني أن يتحرر من قيد هذه الزمرة التي ما زالت تتحكم في مصيره حتى الآن وتقوده إلى جحيم اليأس والفوضى،ومنظومة الفساد الذي استشرى بكافة أشكاله السياسية والمالية والإدارية في كل مفاصل العمل الفلسطيني على مر تاريخه؛ فقد احتكرت حركة فتح صناعة القرار السياسي الفلسطيني من خلال سيطرتها على "منظمة التحرير الفلسطينية" والهيمنة على مؤسساتها الرئيسة، كما استفردت بمؤسسات "السلطة الفلسطينية" وهمشت الداخل الفلسطيني، وأقصت فلسطيني الشتات وسخرت مؤسسات المنظمة لصالح السلطة الحاكمة في رام الله.
ساهم ذلك كله في مراكمة حجم الفساد في كل مفاصل السلطة التي استحوذت على كل شيء، على حساب الشعب الفلسطيني، الذي لا يجد شبابه فرص عمل بسبب غياب المشاريع التنموية التي تستوعب الأيدي العاملة الفلسطينية؛حيث يواجه الشباب الفلسطيني سياسات عامة تحرمهم من المشاركة العادلة في صنع القرار الوطني، كماتتعرض حراكاتهم إلى عمليات قمع وتضييق في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأدى فشل السلطة الفلسطينية في خلق مشاريع استثمارية في الضفة إلى جعل الشباب الفلسطيني يتجه للعمل داخل إسرائيل و في المستوطنات الإسرائيلية،للعمل برواتب خيالية تفوق ما يتقاضاه داخل حدود سلطة رام الله.
فالفساد ظاهرة من أهم المشكلات في الواقع الفلسطيني حيث تظهر استطلاعات الرأي المختلفة حول انتشار ظاهرة الفساد في السلطة الوطنية الفلسطينية أرقاماً مفزعة عن الحجم الذي وصلت إليه؛ فبحسب مؤسسة الإئتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) و مقرها رام الله بلغت نسبته في العام الماضي 64%.

دولة ودويلة!
سيطرت حركة حماس على قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007، وأعلنت دويلتها هناك وأطاحت بالسلطة الفلسطينية في غزة وشكلت حكومة وإدارة موازية لإدارة شؤون القطاع؛ وصفها البعض بـ "غزة ستان" و"حماسستان!
أدى الإنفصال الحمساوي إلى حدوث شرخ بين جناحي الدولة المنشودة (الضفة والقطاع) و تعميق أزمة الفلسطينيين؛وفشلت السلطة الفلسطينية في رأب الصدع مع حكومة غزة ؛مما جعل الأوضاع الفلسطينية تتعقد أكثر في ظل ذلك التخبط السياسي الذي رافق الإنفصال الذي مضى عليه ما يقارب 14 سنة.
ولقد وجدت حركة "حماس" الإخوانية في حكمها للقطاع فرصة لا يجوز التفريط بها ؛ لتمارس سلطتها وتنفذ أجندتها الأيديولوجية بعد أن تخلت عن مقاومتها المزعومة لصالح سلطة منزوعة الدسم و على حساب مصالح الشعب الفلسطيني ووحدته الجغرافية والسياسية. إن استمرار فشل كل حوارات المصالحة دفع الفلسطينيين للتساؤل هل ترغب السلطة وحماس إنهاء الإنقسام، أم أنهما يريدان استمراره لتوظيفه في خدمة مصالحهما الحزبية؟

خذ وطالب
أن التسويات على مر التاريخ وخاصة في الصراعات الكبرى أو المعقدة فيها مقدار من الربح والخسارة لكل الأطراف؛حيث تلعب التوازنات الدولية والإقليمية وموازين القوى الدور الفعّال والمؤثر في مخرجاتها وبنودها؛ فعلى الصعيد العربي فإن أغلب الموازين والتوازنات وبكل المقاييس –للأسف-لا تصب في مصلحتنا. فقد ضيعنا كل الفرص المتاحة في ظل التوازن الدولي عندما كان الاتحاد السوفيتي حليفاً للعرب والقضية الفلسطينية،فرفضنا –كما ذكرت آنفا- كل مشاريع التسوية ؛ أصبح حالنا كمسرحية كوميدية مأساوية –تشبه مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"،حيث نجلس فيها منتظرين قدوم المخلص "غودو" الذي لم ولن يأتي حتى وصلنا إلى الوضعية الراهنة البائسة!
ومع ذلك ما زال يُصر الكثيرون منَّا وتحت نفس الذرائع والشعارات برفض أي صفقة أو مشروع أو تسوية لاعتقادهم أن في ذلك تفريطاً بحقوقنا، ونسي هؤلاء بأننا نخسر يومياً؛ فلو أتقن العرب والفلسطينيون سياسة "خذ وطالب" التي اشتهر بها الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي نصح الفلسطينيين في سنة 1965 عندما زار مدينة أريحا الفلسطينية، وألقى خطابه التاريخي الشهير الذي دعا فيه اللاجئين القبول بقرار التقسيم الذي صدر عام 1947 (الذي أعطى الفلسطينيين ما يقارب 45% من مساحة فلسطين). إلا أنهم رفضوا ما طرحه واتهموه بالخيانة.
فبعد زيارة بورقيبة بعامين حلت نكسة عام 1967 (وما أكثر نكساتنا ونكباتنا)فأصبحنا نترحم على قرار التقسيم وصرنا نطالب بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967 والبالغة 22% من مساحة فلسطين التاريخية والتي تشمل: الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة؟!
وهنا اسأل شعبنا الفلسطيني: بعد كل هذه النكسات والنكبات هل سنبقى على نفس النهج السياسي العبثي؟
إن عدم وجود رؤية فلسطينية واقعية لحل قضيتهم، وغياب التوافق الوطني بين الأحزاب والفصائل الفلسطينية، قد عمّق أزمة الشعب الفلسطيني ومعاناته، وأفقده الأمل من أن يعيش حياته بكرامة وسلام؛ ما يُحتم على طبقته الحاكمة والمسيطرة على قراره السياسي، بأن تتنحى عن قيادة هذا الشعب العظيم، الذي يستحق قيادة تمتلك رؤية خلاّقة تخرجه من حالة الإنسداد التاريخي التي يعيشها.
إن القضية الفلسطينية، التي كانت محل إجماع عربي لم تعد كذلك بسبب النهج السياسي للقيادات الفلسطينية الحالية التي لا تكترث بفلسطين أو الفلسطينيين؛ لذلك خسروا دعم وثقة العرب الذين أصبحوا يعتبرونها زعامات غير مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني، بسبب عدم امتلاكها للوعي السياسي الذي يمكّنها من إدارة الشأن السياسي الفلسطيني؛ بمعنى أن العرب قد يأسوا من تحمل عبء القضية الفلسطينية التي لا يريد الناطقون باسمها أن يخرجوا من مستنقع صراعاتهم وانقساماتهم وفسادهم الذي أفقد قضيتهم زخمها وعدالتها!
لذلك أقول لجميع أركان سلطة رام الله وغزة أن يتحملوا المسؤولية التاريخية ويعترفوا بعجزهم وفشلهم في التعاطي مع كل مشاريع التسوية التي طرحت عليهم لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ويتنحوا عن قيادته؟