في عدد من مقالاتي كنت دائماً ما أشير إلى أهمية ضرورة اجتماع الأنشطة الأربعة(الدين والفلسفة والعلم والفن) تلك الأنشطة التي تقف خلف كل فعل حضاري وصيرورة وحراك وتفاعل بين الإنسان وذاته والإنسان والآخر(أيَّاً كان هذا الآخر إنسان أو جماد أو نبات أو ظواهر أو مفاهيم...إلخ)، وإذا كانت الصيرورة هي أساس الوجود بناءً على الرأي الفلسفي لهرقليطس الذي يرى أنه لا ثابت إلا التغيير، فإن الاكتفاء بنشاط معين من تلك الأنشطة دون الآخر يعني التصادم مع تلك الحقيقة والسنة الكونية، وكنت قد ذكرت في بحثٍ سابق لي بعنوان(التصوُّف السُنِّي: الحلَّاج نموذجاً) إلى النتائج العظيمة خلف اجتماع التصوف والفلسفة(يمكن الرجوع إليه في موقع نفحات الطريق) والتي من أهمها بناء إنسان مسلم معتدل متسامح ينطلق من رؤية إنسانية.

في الواقع ليس من عادتي الاهتمام بأطروحات رجال الدين حول الفلسفة والفكر والتاريخ، لأنني أعتقد أن التحيُّز سيطغى على تلك البحوث ولن يكون للموضوعية فيها مفردة ولا مكان، لكن السيد كمال الحيدري كسر لدي تلك القاعدة، ووجدت لديه العديد من التساؤلات التي كانت تؤرِّقني إلى حدٍ ما بل وأصبحت تُشكِّل لدي أزمة وجودية، سر عظمة وقوة ورصانة أطروحات الحيدري تكمن في نظري في اجتماع تلك الأنشطة الأربعة في عقله ووجدانه والتي انعكست بصورة تلقائية في أعماله بل وفي شخصيته التي يغلب عليها الهدوء والسكينة والمرونة والتقبُّل للآخر على أي حالةٍ كان، استطاع الحيدري بذلك الوصول إلى الشباب وملامسة مشاعرهم وإدراك همومهم وتساؤلاتهم، لم يعُد الشاب المسلم(سُنياً كان أم شيعياً) في عصرنا هذا يقبل الآراء والأساليب التقليدية القائمة على استعراض النصوص الدينية بصورة جافة وإصدار الأحكام الفورية دون مراعاة للتغيرات والمستجدات والظروف بكافة أشكالها، لم تعد تنطلي عليه مسألة المؤامرات وانسلاخ الهوية والتغريب...إلخ، أصبح يسخر من العمامة الشيعية واللباس الديني التقليدي للسلفي الخليجي أو العمامة الأزهرية ويرى فيها رموزاً للتخلف والرجعية.

إن تلك الشخصية الدينية الكمالية وذلك النموذج الحيدري المُتفرِّد هو ما نحتاج إليه، هو من يجب أن يتصدَّر وتُفتح وتُمنح له المنابر، حينها سيسود الخطاب الإنساني المُتَّزن والمنفتح على الآخر والقائم على منهج(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين).
وأنا هنا أتحدث عن الحيدري كظاهرة إنسانية دينية فلسفية، لا علاقة لي بتشيُّعه، فلستُ مِمَّن يهوى الحديث عن الطوائف والمذاهب، رغم إيماني أن المذهبية ضرورة في كل دين لأن الأديان والمذاهب ينطبق عليها فعل الصيرورة أيضاً كأي شيء آخر في هذهِ الحياة، فالأديان والمذاهب في تطور مستمر، والجميع يزعم أن هناك ثوابت لا تتغير، والحقيقة هو أن ثباتها ليس لذاتها؛ إنما لأن البشر حتى الآن لم يصلوا إلى ما يمنحهم اليقين في أي مسألة وقضية تُعَد من الثوابت، ومن يقول أنه مسلم بلا مذاهب فهو كاذب أو جاهل، المذهبية نتاج طبيعي لأي فكر إنساني أو عقيدة دينية، وعندما تلغي المذهبية فإنك حتماً ستلغي الإسلام أو غيره من الأديان، لأن المذاهب بتعدُّدها تُشكِّل روح الإسلام وتقدم تفسيرات مختلفة للنصوص الشرعية، هذا فضلاً عن أن علم الفقه وأصوله تأسَّس بناءً على تعدد المذاهب، فتعدد المذاهب لا إشكال فيه طالما أن المعين الذي يُستقى منه واحد وهو القرآن الكريم، فهو الميزان والمعيار للرأي الديني، أما الطائفية فهي المنبوذة إنسانياً والمحرَّمة شرعاً والمُجرَّمة قانوناً.

أقول بعد كل هذا؛ سيبقى الإسلام وسيبقى السنة والشيعة، ولا يمكن أن يزول ولا يمكن أن يزولا، لكن ما يجب أن يزول هم أصحاب الرأي الواحد، دعاة الحقيقة المطلقة(الأصوليون)، وسيزولون حتماً بوجود أمثال السيد الحيدري والذي أجزم أن منهجه ورؤيته بدأ يظهر صداها وأثرها على كثير من شباب العالم الإسلامي بكافة مذاهبهم واتجاهاتهم، حتى من اختاروا الإلحاد استطاع الحيدري جذبهم إليه! وقد عاد كثير منهم إلى الإسلام، من هنا أجد لدي الجرأة لوصفه ب(أيقونة إنسانية إسلامية فلسفية).