للفكر أربعة أشكال أو ميادين أو أنشطة، وهي(الدين والفلسفة والفن والعلم)، وكل منها له دوره وأهميته، ولا يغني نشاط عن آخر، بها استطاع الإنسان أن يكتشف نفسه وحياته وكل ما يحيط به، ومن خلالها تمكَّن من العيش واحتمال كل الصعوبات ومواجهة التحديات.

١.الفلسفة: وظيفتها إخضاع كل شيء للنقد والتحليل والبحث، ويبرز في الخطاب الفلسفي(الشعور بالقلق والشك الدائم) لأن الفلسفة بطبيعتها لا تُسلِّم بأي أمر أو رأي أو قضية، ولا تُشكِّل خطاباً مغلقاً، بل هي خطاب مفتوح، وللفلسفة أدوار عظيمة تمتد إلى العلم والدين، فهي تؤكد دائماً وتأخذ في الحسبان النزعة الإنسانية.

٢.الدين: وظيفته الأساسية تكمن في تعزية المؤمنين ومنحهم الأمل والرجاء ويوفر لهم معنى شامل لحياتهم يجعلهم يحتملون الحياة وما فيها من مآسي ويقبلون بحقيقة الموت من خلال الإيمان بحياة أخرى لا يعتريها النقصان، والتأكيد على الرحمة والأخلاق النبيلة، هذا هو ما يجب أن يكون عليه الدين بغض النظر عن الواقع في العالم العربي والإسلامي والذي أصبح الدين حلاً وعلاجاً لكل شيء، وفي الدين والإيمان يجد الإنسان الشعور بالطمأنينة.

وهناك موقف للنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على ضرورة بقاء من يحمل رسالة الدين(نبياً كان أم رجل دين) في النطاق الذي أراده الله له. حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد أحياناً هذا البيت الشهير لطرفة بن العبد مع الإخلال به:
(ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً...ويأتيك من لم تزود بالأخبار) . فقال أبوبكر رضي الله عنه: (ليس هكذا يا رسول الله)، فقال عليه السلام: (إني لست بشاعر ولا ينبغي لي)، وهو مصداق قوله تعالى(وما علمناه الشعر وما ينبغي له).

٣.الفن والأدب: شعراً كان أم رسماً أم موسيقى...إلخ، وظيفته التعبير عن المشاعر والأحاسيس وكل ما لايستطيع الإنسان البوح به وقوله أو بلوغه لعجزه وقصوره وضعفه يُجسِّده في صورة فنية، وفي الفنون يجد الإنسان مُتنفَّساً وراحةً(الشعور بالراحة)، لذا نجد أن الطب النفسي وعلم النفس أصبح يعتمد العلاج النفسي بالموسيقى، وكذلك العلاج بالسايكودراما.

٤.العلم: وظيفته النفع والإفادة والإسهام في خدمة البشرية بحسب كل علم ومجاله، وفي العلم لا مشاعر ولا شكوك ولا تحيُّزات، إنما صورة جافة يقينية موضوعية، على وجه الخصوص تلك النظريات المستندة على المنهج التجريبي، أما المنهج الوصفي والتاريخي فرغم أهميتهما إلا أنهما لا يتمتعان بالدقة والموضوعية كما هما في المنهج التجريبي.
وهذه الأنشطة الأربعة(الدين والفلسفة والفن والعلم) ليست وليدة الصدفة، وتعدُّدها ليس ترفاً أو خيار، إنما حاجة وضرورة وإجبار، فالإنسان ليس بُعداً واحداً، ولأن الإنسان(جسد ونفس وروح)، كان لزاماً أن يبتدع ويخلق ما يحتاجه في أركانه الثلاث، فكان الدين والإيمان، ثم الفلسفة والفنون، ثم العلم أخيراً والذي منح الإنسان القوة والسيطرة والتحكم في الظواهر والتنبؤ بها وفق إرادة الله.

وبقدر اجتماع تلك الأنشطة الأربعة لدى الإنسان وينال حظاً منها، يكون أقرب إلى الفهم والإدراك لنفسه ولغيره ولكل ما حوله، يكون واسع الأفق يتّسم بالمرونة يقبل الآخرين يلتمس الأعذار يراعي الظروف والتغيرات تغلب عليه النزعة الإنسانية والرحمة ويؤمن بالتعددية.

ولو نظرنا إلى الشخصيات الشهيرة في تاريخنا العربي والإسلامي سنجد أن من أحدثوا تأثيراً وكانوا علامة فارقة في تاريخنا هم من أجتمعت فيهم تلك الأنشطة، على سبيل المثال لا الحصر: أبو بكر الرازي كان طبيباً وفيلسوفاً وتعلَّم الموسيقى وكان متديناً، ابن سينا كان طبيباً ورجل دين وفيلسوف ولديه إسهامات متعددة في الموسيقى، محيي الدين بن عربي كان فيلسوفاً ورجل دين وشاعر، أبو يوسف يعقوب الكندي كان فيلسوفاً وعالم فلك ورياضيات وله مؤلفات في الموسيقى، الفارابي، وابن رشد والذي بموته انتهى العصر الذهبي للعرب والمسلمين وأُسدل الستار على أعظم حضارة كان يتعانق فيها الروح والمادة، الدين والعقل، وأتى من دعوا إلى الاكتفاء بالدين فحسب، حينها قصُرت الأفهام، وضاقت الآفاق، وكان الإقصاء منهجاً، وسادت لغة التكفير التي لا زالت ممتدة حتى عصرنا هذا.

وكل ميدان من هذهِ الميادين الأربعة هو المرجع والحَكَم فيما يخصه من موضوعات وقضايا، مثلاً: حدوث كارثة بيئية أو انتشار مرض معين يُرجع فيه للعلم والعلماء، موضوعات المناهج ونظرية المعرفة يُرجع للفلسفة والفلاسفة، وهكذا. أما عندما تطرأ ظواهر وقضايا تتعلق بذات الإنسان وحياته وكرامته وحريته فإن المعيار ينبغي أن يكون صوت الضمير الإنساني(الفطرة)، تلك الفطرة التي أودعها الله في أعماق كل إنسان.

ما وافق هذا الصوت نأخذه ونقبل به وندعو إليه، وما خالفه نتركه ونرفضه ونحاربه. كلما تركنا الكلمة للضمير، كلما انقاد الإنسان والبشر نحو الخير، وكلما حاولنا تقييد الإنسان بالدين كلما سعى هذا الإنسان إلى نقض كل شعيرة دينية حتى ينتهي به المطاف إلى الإلحاد.

أضرب مثالاً ليتضح المقصود: شخص ينادي بالعلمانية، وشخص آخر ترك دينه، لاحظ هنا أن تلك المسائل تتعلق بالإنسان والحياة ولا علاقة لها بذات الدين، فلو رجعنا هنا للدين سنجد بعض النصوص الدينية التي بُني عليها أحكام تقول بكفر من يؤمن بالعلمانية، ونصوص أخرى تجزم بقتل المرتد، بينما لو تحاكمنا إلى صوت الضمير الإنساني سنجد أن هذا الإنسان يرى أن العلمانية هي النظام الصالح للدولة والتي من خلالها سيكون الجميع سواسية ويتمتعون بذات الحقوق والحريات، وهذا ينسجم تماماً مع صوت الضمير، سنشعر أن الفطرة ترفض قتل إنسان بريء لمجرد اتخاذه قرار في أمر يتعلق به، سنجد أن إيمانه أو إلحاده شأن خاص به سيحاسبه الله عليه في الدار الآخرة، وقس على ذلك.