مسافات صحافية طويلة قطعها عملياً الأستاذ رياض نجيب الريس، الصحافي العربي الراحل والرحال من قُطرٍ لآخر ومن قارة لأخرى بحثاً عن معلومة ونقلاً لخبر، ومحللاً سياسات البشر ومستشرفاً المستقبل.

بين تلك المسافات إصدار جريدة أسبوعية عربية في لندن، اسمها "المنار".

ضمن سياق حكاية "رياض نجيب الريس في حوار مع سعاد جروس" عن 36 عدداً صادراً عن جريدة "المنار"، كأول جريدة عربية أسبوعية تصدر في لندن (وإن سبقتها بثلاثين سنة جريدة يمنية صدرت بكارديف: السلام.. للشيخ عبدالله علي الحكيمي) دام حضور الشأن اليمني الدامي فيها منذ صدور العدد الأول 15 أكتوبر – تشرين الأول 1977م، عقب اغتيال الرئيس اليمني إبراهيم محمد الحمدي، وصعود الرئيس أحمد حسين الغشمي.

شغل الريس نفسه بإدارة جريدة تعثر استمرارها بسبب ضعف التمويل، وعلى ما يبدو، لم تكن علاقاته اليمنية المباشرة والواسعة هي الرافد المعلوماتي للجريدة وأخبارها، ففي هذا الشأن الدامي بالذات، ركنت "المنار" وعهدت بـ"يمانياتها" الدامية (بعد أيام من مصرع الحمدي 1977م) ثم الديمقراطية (قبل شهور من مصرع خلفه أحمد حسين الغشمي 1978م) إلى اسمين اثنين هما:

الصحافي اللبناني الأستاذ حافظ إبراهيم خير الله (المقيم في لندن بعد سنوات عمل قضاها بين أعمدة وتحقيقات وصفحات كل من صحيفة النهار حيث تزامل والريس، وكذا مجلة الحوادث، ثم جريدتي المنار والشرق الأوسط، وهو "ذو علاقات واسعة" مع يمنيي السبعينيات).

والصحافي السعودي الأستاذ عثمان العمير (ناشر ورئيس تحرير جريدة إيلاف الالكترونية، ورئيس تحرير الشرق الأوسط والمجلة سابقاً، بانقضاء العقد الثالث من العمر في الصحف السعودية المحلية).

وطبقاً لرياض الريس في كتاب "صحافي المسافات الطويلة" أن "من السعودية كتب عثمان العمير في الشؤون اليمنية وكان في بداياته، فكان يوقع المقالات التي تُعَدّ إشكالية باسم عمر سيف..".. حسب حوار الريس وجروس. لا يختلف العمير مع هذا التبرير فـ"حساسية" المادة اليمنية، وطابعها الإشكالي المرتبط بدموية الصراع على النفوذ والحكم اليمني لم تسمح للصحافي الشاب أن يضع اسمه الصريح على تلك الإشكاليات.

.. عوداً إلى ما نشرته "المنار" عن مسلسل الدم اليمني وفصله المثير يومها: اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، ماذا نشرت لعثمان العمير من يمانيات باسم "عمر السيف" من "صنعاء"؟!

للوهلة الأولى يُظَن أن عثمان العمير جاء صنعاء يرصد الأحوال اليمنية بعد اغتيال الرئيس الحمدي، ويتضح العكس كونه لم يزر صنعاء غير عهد الرئيس علي عبدالله صالح -حسب الأستاذ العمير- وهو رئيس تحرير الشرق الأوسط، وأنه (فترة السبعينيات) كان يعمل بصحيفة الجزيرة السعودية، فلم يكتب إلا "من السعودية".

في العدد صفر 2، المؤرخ في 15 أكتوبر 1977م، تصدر الصفحة الأولى عنوان: "اغتيال الحمدي يفجر صراع الحكم: السياسيون والقبائل يتصدون للنظام"، وبعد عمودين خُتما بلفت انتباه القراء إلى (تفاصيل اليمن ص 8)، نقلب الصفحات وصولاً إلى الصفحة الثامنة، ويطالعنا عنوان: "قبل اغتيال الحمدي وبعده: اليمن أمام المستحيلات الصعبة.. الجبهة الوطنية ترفع العصا والقبائل تفاوض للوصول إلى الحكم، من صنعاء – عمر السيف".

مما جاء في المادة أن "التصفية على الطريقة اليمنية يعد سمة للحياة السياسية يتساوى فيها من يرتدي قبعة العسكر أو عمامة الأئمة". وتحت عنوان فرعي "العلامة الفارقة" قال: "جاء الحمدي على رأس العسكر في ظروف مشابهة تماماً لأي وضع يعجز فيه السياسيون المدنيون عن تجاوز أزمة واقعهم ويصابون بانعدام القدرة في خلق القواسم المشتركة بشكل مناسب، فالحمدي قد يكون في تشيلي أو باكستان أو الخرطوم، لكن العلامة الفارقة للمقدم الحمدي أنه جاء ضرورة قصوى لا تمليها فقط حالة شكل سياسي، بل ووضع ناتج عن حرب أهلية طاحنة...".

وأضاف: "تمكن الحمدي بحكم هذه الضرورة من أن يرتدي قناعاً إصلاحياً مميزاً، أقنع بعض العناصر السياسية الشابة أن الأزمة اليمنية أزمة تخلف قبل أن تكون أزمة ديمقراطية أو تغيير نظام اجتماعي".

يلفت السيف أو العمير في سياق تقريره إلى قوى واجهها الحمدي: "قبلية وسياسية محترفة ويسارية"، مبيّناً حدود وفوارق "تأثير هذه القوى وهو ما يهم الحكم" عامةً. وانتقادات القوى اليسارية للرئيس الحمدي وأنهم "يتهامسون بما يشبه الجهر عن سعة وقوة نفوذ الملحق العسكري السعودي في صنعاء".

ويختم تقريره بذكر "محاولة الدول الشقيقة والصديقة معالجة ما يعانيه النظام اليمني، بالمسكنات ووضع حلول سريعة لمشاكل اقتصادية في الداخل ومتاعب سياسية مقبلة مع الجيران".. وأن "ما يحتاجه اليمن قبل كل شيء الخروج من نظام القبيلة إلى نظام الدولة..".

ثم في العدد رقم 1 المؤرخ في 29 أكتوبر تشرين الأول 1977م أشهر عثمان العمير "السيف عمر" تحت مادة شيقة "فن الاغتيال السياسي على الطريقة اليمنية: الحمدي يحكم اليمن من قبره والغشمي لا يمضغ القات".

سرد العمير – السيف سلسلة الأسماء والدماء اليمنية من الإمام يحيى حميدالدين إلى "أخيراً وليس آخراً الحمدي" مروراً بالقاضي محمد الزبيري والشيخ محمد علي عثمان والأستاذ محمد أحمد نعمان والقاضي عبدالله الحجري، مع من "أفِلت نجومهم خلال تلك الفترة" ممن "سقطوا صرعى على درب السياسة اليمنية بالغة التعقيد" حد تعبيره.

ثم يصف الرئيس الحمدي بقوله: "رجل ذكي، بدأ شيوعياً متحمساً، ثم أدرك أن كتب ماركس ومماشاة اليسار لا تطعمه خبز الحكم، فقرر أن يلغي أفكاره الخاصة، ويركب الحكم بـ"عربة سعودية" استطاع بدعمها أن يغازل الجميع بدون استثناء، ويجرهم إلى تشديد قوته ودعم شأنه، ليعيد ترتيب البيت اليمني ويتدبر احتياجاته..".

ينقل العمير "ثمرة متابعته للشأن اليمني ولقاءاته ببعض الساسة" والمصادر التي نهل منها المعلومات عن الشهيد الحمدي أنه "كان يردد أمام أصدقائه الذين يعرفون طموحاته الحقيقية ويوازنون بينها وبين واقعه، فيطالبونه بأن يضيق الشقة بين الحلم والواقع. قائلاً: ألا تذكرون أن ديغول كان يقول أنه يجد صعوبة في حكم شعب يأكل عشرات الأصناف من الجبنة؟ إنني أيها الأصدقاء أحكم شعباً يولد كل فرد منه وفي وسطه خنجر!".

أرجع عثمان العمير "(السيف اليماني) إلى غمده" -ولم يبق بين يدينا شيء آخر مما كتبه باسم عمر السيف عن اليمن للمنار- بعد أن تساءل "والآن ماذا؟" حول مصير الحكم الجديد برئاسة الغشمي وعلاقاته الداخلية والخارجية، ثم تطرق إلى "الصراعات المحتملة" واللافت أن سعة اطلاع عثمان العمير وقتها، وحداثة سنه، وعمق اهتمامه بالشأن اليمني يومذاك، جعله لا يستبعد -ساخراً- عودة بعض المشاريع الطائفية اليمنية التي أثيرت على لسان بعض الساسة المبعدين بعد ثورة سبتمبر 1962م.

بخلاف الأسماء المتداولة -حتى اليوم- على لسان أسرة الرئيس الحمدي، عن منفذي اغتياله وأخيه عبدالله، ونشرتها أيضاً جريدة "المنار" وتداولتها بعض الصحف الكويتية يومها، فإن العنوان الأكثر إثارة في قضية اغتيال الرئيس الحمدي فكانت في العدد 2 المؤرخ في 5 نوفمبر تشرين الثاني 1977م، تحت عنوان: "التفاصيل الكاملة للأحداث الدموية في صنعاء: الحمدي طلب اللجوء إلى السعودية قبل مصرعه ببضعة أيام" بقلم الأستاذ حافظ إبراهيم خير الله!

... البقية -ستأتي إن شاء الله- في حياتكم، ضمن كتاب بدأ إعداده "دمٌ بعد دمٍ: من حُمى السلطة إلى فوضى الحرب.. رصد الاغتيالات السياسية اليمنية".

* رئيس منتدى النعمان الثقافي للشباب، صحافي وباحث سياسي يمني
تصحيح زرت اليمن حين كنت كما اعتقد رئيسا للمجلة
تم