عقب اندلاع حرب في 6 أكتوبر 1973، قررت القيادة العراقية أن تستثمر – إعلاميا - تلك الحرب التي لم يكن أحد من المسؤولين العراقيين يصدق بأنها حرب تحريرية، بل تحريكية، كما أشيع في أوساط السلطة منذ يومها الأول.

وكُلفتُ بإنشاء إذاعة متنقلة على الجبهة تخاطب الجنود العراقيين والسوريين المشاركين في القتال على الأراضي السورية.
تولى المهندس خالد الحكيم تركيب جهاز البث والأستوديو المتنقل، وتولى مهندس الصوت مهدي طارش إدارة المعدات وتشغيلها.
رافقني في تلك الرحلة المخرج السينمائي المصري فؤاد التهامي الذي أصر على أن يقوم هو بنفسه، وليس أي مصور آخر، بتصوير المعارك، رعم خطورة المهمة.

كنا ننام ليلنا في دمشق ونتوجه فجر كل يوم إلى جبهة القتال في منطقة يقال لها (غباغب)، قريبة من الطريق الدولي بين دمشق وعمّان. أقود سيارة (تويوتا) كبيرة ملطخة بالطين لئلا يلفت لمعان حديدها أنظار العدو. وكان يجلس إلى جانبي المخرج فؤاد، وخلفي مهندس الصوت مهدي طارش.
وذات مساء أخبرني قائد موقع دبابات عراقي أن عملية مغاوير سورية ستنطلق من موقعه فجراً، وبالتحديد مع أول خيوط الضوء، وقبل ظهور الشمس، لتفجير مركز صاروخي إسرائيلي لا يبعد كثيرا. وسألني عما إذا كنا، فؤاد وأنا، نحب مشاهدة العملية؟ أجبنا فورا وبحماس بالقبول، فراح يشرح لنا كيفية الوصول إلى المنطقة ليلاً دون دليل ولا أية مساعدة من أحد.

عدنا إلى دمشق لننام مبكرا ونصحو بعد منتصف الليل بقليل لنبدأ رحلة العودة إلى الموقع تحت جنح الظلام. وصلنا إلى الموقع بعد جهد جهيد، وكانت الساعة في حدود الثالثة، فاختار فؤاد تلاً مناسباً وضع على قمته كاميرته ومعداته، وخبأنا خلفه السيارة، ورحنا نعد الدقائق في انتظار الحدث الكبير.
ونحن في الانتظار كان بردُ الصحراء القاسي لا يدع أحدنا في العراء طويلا. فكنا نعود إلى السيارة لنتدفأ قليلا ونعود إلى التل من جديد. وصادف أن تكون تلك الليلة معتمة شديدة الظلام. وإلى أن بدأت أولى خيوط الضوء تتلاحق في الأفق كان كل منا قد سار من السيارة إلى التل، وبالعكس، عدة مرات. ولم تبدأ عملية الاقتحام، ولم نشاهد وميض القنابل، ولم نسمع دوي الرصاص.

وحين بدأت الشمس بالنهوض من سباتها لمحت أشباح جنود المغاوير السوريين وهم مختبئون خلف جرف الوادي، قريبين من مواقع الدبابات العراقية، لم يتسللوا إلى الموقع الإسرائيلي كما كان منتظرا. وحين ارتفعت الشمس قليلاً في الأفق وأصبحت الرؤية جلية أطلق أحدهم صاروخاً باتجاه الموقع الإسرائيلي وهرب مع رفاقه عائدين إلى مواقعنا. وما هي إلا دقائق حتى سادت الموقع فجأة حركة تغيير عاجل لمواقع الدبابات العراقية قبل أن تبدأ صواريخ العدو بالهطول علينا كالمطر. وكان ما كان، ودفع العراقيون ثمناً باهظاً في ذلك الصباح، مقابل لا شيء.

المهم، أنني بعد كل ما حصل، وجدت قنبلة ضد الأفراد كانت ملقاة على طريقنا، تخلفت ولم تنفجر. وبين القنبلة وبين أثر قدم أحدنا، فؤاد أو مهدي أو أنا، مسافة بسيطة لا تتجاوز الشعرة الواحدة، حيث كنا نرتدي الحذاء العسكري نفسه. أبلغت قائد الموقع العراقي فأمر بتفجيرها. أما فؤاد فقد جثا على ركبتيه وهو يشكر الله، باكيا، على النجاة.