منذ توقيع اتفاق السلام بين دولة الامارات وإسرائيل، تتوالى التحليلات حول آفاق هذه العلاقات وهل تتحول إلى "سلام بارد" على شاكلة ماحدث قبل ذلك في معاهدات السلام التي تربط اسرائيل بأطراف عربية أخرى أم تتحول إلى علاقات طبيعية تدريجياً على المستوى الشعبي وليس على المستوى الرسمي فقط؟

قناعتي أن حالة الامارات في علاقاتها مع اسرائيل تختلف كلياً عن حالات عربية أخرى، ليس كما يعتقد البعض ممن تتمحور تصوراتهم حول الفكرة القائلة بأن الامارات لم تخض صراعاً عسكرياً مباشراً مع إسرائيل، فالامارات دولة عربية وقفت وساندت بقوة ما كان يعرف بـ "دول المواجهة" التي خاضت حروباً عدة مع إسرائيل، وهذه حقيقة لا يمكن انكارها، كما أن الامارات كانت ولا تزال تلتزم بدعم حقوق الشعب الفلسطيني، وبالتالي فالحديث عن اختلاف الحالة الاماراتية لا يتعلق ـ من قريب أو بعيد ـ بمسألة الصراع العسكري مع إسرائيل، ولكنه يرتبط، في اعتقادي، بخصوصية الامارات المستمدة من خصوصية تجربتها ونموذجها التنموي والتحديثي؛ فالامارات لديها خطط تنموية طموحة وتطلعات تنافسية عالمية تجسدها رؤية الامارات 2021 واستراتيجية مئوية الامارات 2071، وهي رؤى واعدة لها أهداف دقيقة محددة وبرامج عمل تنفيذية تضمن تحقق هذه الأهداف في توقيتاها، وفي سبيل ذلك تحرص الامارات على مد جسور التعاون والتواصل مع دول العالم كافة للاستفادة من خبراتها وتقدمها في مجالات مختلفة، وهنا لا يمكن استثناء اسرائيل من هذه المعادلة، لاسيما في ظل التفوق الاسرائيلي في مجالات وقطاعات صناعية وتقنية بعينها، بحيث يبدو من الصعب الوصول إلى هذه التكنولوجيا وامتلاكها من دون التعاون مع الصناعات والخبراء والشركات الاسرائيلية.

الامارات، بقيادتها الطموحة، اعتادت أن تفكر دائماً خارج الصندوق، ولا تعترف بأن هناك سقفاً للطموحات والتطلعات سوى السماء، كما سبق أن قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذا مايفسر خططها المبتكرة في التعامل مع الملفات والقضايا المختلفة، ويفسر أيضاً سعيها للبحث عن بدائل وحلول خلاقة للعلاقات العربية المعقدة مع إسرائيل، من دون التخلي عن دعمها الثابت للقضية والشعب الفلسطيني، من خلال حل واقعي يضمن تحقق المصالح الاستراتيجية الاماراتية ويفتح للفلسطينيين ثغرة في جدار الصمت الذي أغلق تماماً في الآونة الأخيرة.
لذا، يلاحظ أن مسار التطبيع بين الامارات واسرائيل يأخذ طابعاً عملياً متسارعاً منذ الأيام الأولى لتوقيع اتفاق اقامة العلاقات بين الجانبين، اللذين ارتبطا بأطر تعاون رسمية مختلفة من خلال اتفاقات بين الشركات والقطاعات الاماراتية ونظيرتها الاسرائيلية، وهو ما لم يحدث في حالات عربية أخرى، لأن الامارات لها أهداف ومصالح استراتيجية واضحة من هذا الاتفاق، وبالتالي ليس من مصلحتها ابقاء الاتفاق حبراْ على ورق، أو تركه في مربع "السلام البارد" كما يقال، وقد تابع الجميع حرص الامارات واسرائيل الفوري على نسج منظومات التعاون وتسريعها فيما يتعلق بمعالجة وتطوير لقاح لفيروس "كورونا" المستجد في إطار تعاون علمي وبحثي يسهم في إنقاذ حياة البشر جميعاً بصرف النظر عن ديانتهم في جميع أنحاء العالم. و ولو أضفنا إلى ذلك السمات الشخصية للمجتمع الاماراتي وما يتميز به من انفتاح وقبول للآخر وتجذر لثقافة التعايش في أوساط الشعب الاماراتي الذي تسكنه هذه الثقافة منذ قيام دولة الاتحاد، ومشاركة مئات الآلاف من العمالة الوافدة في بناء نهضتنا، وحيث يتعامل المواطنين الاماراتيين يومياً مع أجانب يفوق عددهم تعداد سكان دولة الامارات وينتمون إلى أكثر من مائتي جنسية شرقاً وغرباً ومن مختلف الأعراق والأديان والأجناس من دون أي حساسيات أو تفرقة، فإن لنا أن نتصور حجم الاختلاف بين الامارات وحالات عربية أخرى، وهذا أيضاً ما يفسر التجاوب الشعبي الاماراتي الكبير مع التوجه الرسمي للدولة باقامة علاقات مع إسرائيل، لأن هناك ثقة شعبية مطلقة في رشادة القرار السياسي بحكم تراكم الخبرات والتجارب التي شهدتها الدولة وأنتجت هذا الازدهار والتطور الهائل في جميع مجالات الحياة، والذي يضع الامارات في مصاف الدول الأكثر تنافسية في مختلف مؤشرات التنمية، وهو أيضاً الذي قفز بها إلى استشكاف المريخ إثر نجاح الامارات في إطلاق "مسبار الأمل"، في خطوة غير مسبوقة عربياً واقليمياً، تؤكد دخول الامارات فعلياً السباق العالمي لاستكشاف الفضاء الخارجي، لتصبح ضمن تسع دول في العالم فقط لها برامج فضائية لاستكشاف الكوكب الأحمر.

هذه العلاقة الراسخة بين القيادة الرشيدة في الامارات وشعبها تتمثل في أن هناك ارتباطاً قوياً وثقة مطلقة وولاءاً راسخاً، لذا فإن الاماراتيين يدعمون بقوة التطبيع مع اسرائيل خياراً استراتيجياً للدولة، واعتقد أن هذا الأمر يفتح الباب واسعاً لتطبيع اسرائيلي مع دول خليجية وعربية أخرى خلال المستقبل المنظور، فالشعوب الخليجية هي شعوب منفتحة أغلب سكانها من الشباب الذين تلقواً تعليماً جيداً ويمتلكون منظومات قيم مختلفة عن نظرائهم في الدول الأخرى، لذا فإن بناء شبكات المصالح الاستراتيجية بين الامارات واسرائيل سيشجع دولاً خليجية وعربية أخرى على اللحاق بركب العلاقات مع إسرائيل، لأن الكل يدرك مدى رشادة القرار الاماراتي وما يحققه من عوائد استراتيجية على نموذج التنمية الاماراتي الذي بات مثالاً يحتذى به اقليمياً وعالمياً.