مع ترجيح استلام بروس ريد ملف التعامل مع شركات التكنولوجيا في ادارة بايدن المقبلة، فان ابتهاج شركات مواقع التواصل الاجتماعي بهزيمة ترامب سيخفت بريقه، خصوصا مع ايمان ريد بان الشركات " قد " تتحمل مسؤولية المحتوى المضلل والمعلومات الكاذبة التي تُنشر على منصاتها!

المشكلات التي اثارتها، ومازالت تثيرها، مواقع التواصل الاجتماعي على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية امست تشكل صداعا مزمنا للعديد من الدول والمجتمعات والمؤسسات على حد سواء والتي تحاول جاهدة إيقاف هذا الحيتان العملاقة التي ابتلعت البلدان ومجتمعاتها.

وماجرى في الفترة التي سبقت الانتخابات الامريكية، التي يبدو انها حسمت لصالح المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن، دليل واضح على تاثيرات هذه المواقع على مجريات الاحداث في بلد مثل اميركا يمتلك كل مقومات القوة، فكيف سيكون تاثيرها، وهو السؤال الهامشي الذي يستيقظ فورا، على بقية الدول وخصوصا الضعيفة المتهالكة ؟

الحديث عن الصراع مع مواقع التواصل قد ظهر في اجلى صوره في الجدل الذي اندلع بين الرئيس ترامب وشركتي تويتر وفيسبوك كرد فعل على محاصرتهم له "رقميا " وتعاملهم مع تغريداته على تويتر ومنشوراته على فيسبوك، حيث أعرب ترامب عن استيائه من وضع هذه الشركات علامات تحذير على منشوراته وتغريداته التي تحتوي على معلومات خاطئة سواء حول التصويت في الانتخابات الامريكية ونتائجها وحتى حول فايروس كورونا قبل هذه الانتخابات.

ولذا فاجئ الرئيس ترامب العالم، في ييوم 29 مايو الماضي،وغرد على تويتر غاضبا : revok 230 الغاء 230 حيث لم يكن غالبية الناس تعلم او سمعت قبل تغريدة ترامب ما يعنيه هذا الرقم الا بعد ان ظهرت هذه التغريدة المثيرة للجدل، والتي كررها مرة أخرى في 28 من تشرين الأول الماضي في تغريدة ثانية !

هذا الرقم يشير الى البند 230 من قانون هيئة الاتصالات الفيدرالية في الولايات المتحدة الامريكية،والذي انتقده ترامب وطالب بالغائه تزامنا مع صراعه مع مواقع التواصل وقيامهم بوضع تحذيرات على ماينشر في منصاتها.

المادة 230 هو نص قانوني تم اقراره عام 1996 ضمن قانون الاتصالات الفيدرالي الذي جاء لحماية المواقع التفاعلية والمنصات وشركات الانترنيت واي خدمة " تستضيف محتوى "، وتوفير حصانة لها من المضمون الذي يتم نشره من قبل المستخدمين، بل تمنح هذه المادة القانونية الشركات سلطة مطلقة على منصاتها تجعلها قادرة على حذف وإزالة المواد التي ينشرها المستخدمون بسبب مخالفتها للمعايير التي وضعتها تلك المنصات .

ووفقا لهذا القانون لايعتبر أصحاب هذه الشركات والمنصات " ناشرين ّ " ولا مؤسسات او هياكل إعلامية بل تقوم بدور الوسيط محايد مثل بائع الصحف وليس محرر الصحيفة،وبالتالي تُرفع عنهم أي مسؤولية قانونية عن المحتوى الذي ينشره المستخدم ولن تتعرض ابدا للملاحقة القانونية لانها تحتمي بهذه المادة التي بدونها يمكننا تحميل مواقع التواصل المسؤولية الكاملة عن كل ما يكتبه المستخدمون ومايتم نشره فيها .

وكما هو واضح، تعتبر المادة 230 حجر الزاوية والاساس الذي ترتكز عليه حاليا جميع مواقع التواصل في عملها وفي ستراتيجيات بقائها لحد الان، وهي بديهة من بديهيات وجودها ومسلمة أساسية في آليات عمل منصات مواقع التواصل.

وبسبب ضغط الرئيس ترامب والحزب الجمهوري وبموافقة الديمقراطيين ايضا صوتت لجنة التجارة في مجلس الشيوخ على اصدار مذكرات استدعاء إلى رؤساء شركات التكنولوجيا العملاقة الكبرى تويتر وفيسبوك وغوغل (جاك دورسي- مارك زوكربيرج – سندار بيتشاي ) والتي عقدت في 28 تشرين الأول الماضي من اجل الحديث عن حيثيات المادة 230 من قانون آداب الاتصالات وخصوصية البيانات وخوارزميات عمل الشبكات خصوصا ان الرئيس ترامب قد وقع امرا تنفيذيا قبل خمس اشهر من الجلسة يهدف الى الغاء هذه الحماية والغطاء الذي بواسطته تعمل مواقع التواصل وطلب من وزارة التجارة ان تأمر لجنة الاتصالات الفيدرالية بالقيام بعملية تعديل معايير عمل مواقع التواصل .

في جلسة الاستماع لمدراء تويتر وفيسبوك وغوغل والتي استمرت 3 ساعات ونصف تم توجيه وابل من الأسئلة من أعضاء الكونغرس حول العديد من المواضيع ومنها المادة 230 ، وكان المدراء يدافعون عن مواقف شركاتهم ويركزون على المادة 230 التي كان يدور حولها الجدل باعتبارها قد منحت هذه الشركات سلطة مطلقة مكنتهم من الإفلات من اي مسؤولية قانونية فضلا عن التحكم بالمحتوى وابقاء او حذف ما يشاؤون دون التعرض للملاحقة القانونية مهما كان هذا المحتوى سيئا او ربما يكون داعما للإرهاب ومهددا للأمن المجتمعي .

تعتقد الشركات التي تدير مواقع التواصل ان المادة 230 هي التي تجعل منصتها حية ولولاها لما استطاعوا الاستمرار في البقاء، فجاك دورسي يشدد على ان القضاء على هذه المادة سيؤدي الى قتل طريقة التواصل بين الناس في الفضاء الافتراضي، في حين أوضح زوكربيربج بان هذه المادة ساهمت بخلق حرية التعبير وهي التي ساعدت في "صنع الانترنت الذي نعرفه"، وبالتالي فان الغاء هذه المادة سيجعل المنصات تفرض رقابة شديدة على المحتوى من اجل عدم ملاحقتها في القضاء في حالة وجود منشور غير قانوني، مع انه ابدى موافقة من حيث المبدأ على تعديل هذه المادة .

ويتوافق الحزبان الجمهوري والديمقراطي على ضرورة الحد من السلطة المطلقة لهذه الشركات، على الرغم من وجود اختلاف في وجهات نظر الحزب الجمهوري والديمقراطي وكذلك ترامب وبايدن حول المادة واسباب رفضهم لها، حيث ان الحزب الجمهوري يشكو من فرض المنصات رقابة على النشر وحذف للصفحات المؤيدة لهم كما ظهر ذلك في التعامل مع منشورات الرئيس ترامب والصفحات الداعمة، في حين ان الحزب الديمقراطي يتحدث عن انتشار المعلومات المضللة على هذه المنصات واثارها السلبية .

ومع وجود ملايين بل مليارات المستخدمين على هذه المنصات ممن يتأثروا بها وبما يجري على منصاتها ... ومع ادراكنا لحجم تأثير هذه المنصات على العالم وعلى التغييرات الاجتماعية والسياسية التي تحصل فيه ... فان المادة 230 تتحكم فعليا في العديد من الاحداث التي تجري في العالم سواء ادرك المشرعون لها قبل 24 سنة ام لم يدركوا ذلك ! خصوصا وهي مادة قانونية فريدة لاتجد مثيل لها في أي دولة في العالم !

شخصيا لا اجد أروع مما قاله النائب الجمهوري تيد كروز للمدير التنفيذي لتويتر، حيث عاتبه على قيام شركة تويتر بتقييد مقالة نيويورك بوست عن نجل جو بايدن، قائلا : إن صحيفة نيويورك بوست ليست مجرد شخص عشوائي يغرد على منصة تويتر !!! ثم صرخ بوجهه مستغربا: من انتخبك ومن جعلك مسؤولاً عما يُسمح لوسائل الإعلام نقله ؟ ومن اختارك لتحدد ما ماذا يمكن للشعب الأمريكي ان يسمعه؟؟؟

والجواب واضح ... المادة 230 هي التي سمحت بذلك وهي التي وفرت ملاذاً آمنا لتلك الشركات يسمح لها بنشر ما تشاء ثم تخلي مسؤوليتها عن مضمونه وتتنصل عن محتواه وتتبرىء من نتائجه ايضاً، وهي مفارقة نادرة في تاريخ القوانين في العالم !

باحث في مواقع التواصل