في زيارة أخيرة إلى دمشق، وخلال إحدى النزهات التي أواظب عليها في شوارع المدينة كلما حللت بها، كنت مع أحد الأصدقاء حين لفت نظري وجود كم لا بأس به من المكتبات أو دور بيع الكتب المتراصفة تارة والمتناثرة بين الازقة تارة أخرى. وفي الحقيقة لم يكن ذلك غريبا عن دمشق كما بغداد وبيروت والقاهرة في العقود السابقة، والتي شكلت حواضن الثقافة العربية لفترة طويلة. وربما كان الفضول أو الحنين إلى مرحلة وصلنا عبقها من أخبار الأدباء والمفكرين هو ما دفعني للتنقل بين هذه المكتبات، ومحاولة تقصي ما فيها ، فكان من الطبيعي أن أجد أعمال محمد الماغوط الكاملة، ومجموعات محمود درويش، وكتب طه حسين، ومؤلفات محمد حسنين هيكل..وغيرهم من المشاهير. لكن ما فاجأني كان طغيان نوعية أخرى من الكتب، احتلت واجهات العرض اعلى نحو يشبه الاجتياح الكامل، فأخفت كل ما سلف تحت ظلالها التي بدت وارفة كما لو كانت شجرة سريعة النمو. وكان أحد هذه الكتب موجوداً بنسخ متعددة أكثر من غيره، حتى لقد تعمّد من نسّق الواجهة أن يضع هذا الكتاب وسط مجموع الكتب التي من جنسه، وكأنه مركزها فبدا مثل زعيم جماعة يحيط به الأتباع والمريدون... لم يكن هذا سوى كتاب "السرّ."

" السرّ " عنوان ساحر فعلاً، لا تملك إلّا أن تقف أمامه محاولاً سبر أغواره قبل الاطلاع على المحتوى. سألت صديقي حينها، بشيء من المواربة، هل قرأت هذا الكتاب من قبل؟ فأومأ برأسه ... نعم، ثم أردف قائلاً " وهل هناك من لم يقرأه؟ إن هذا الكتاب من أهم كتب التنمية الذاتية بحسب أنصارها". هكذا كان من الطبيعي أن يكون موضوع حوارنا هو التنمية البشرية وكتبها، والمكانة التي تحتلها اليوم بين الشباب.

يقبل الشباب اليوم في مختلف أنحاء العالم على شراء وتحميل وقراءة كتب التنمية الذاتية، ولا يختلف حجم هذا الإقبال في الدول الكبرى كالولايات المتحدة عنه في دول العالم الثالث، فهذه الكتب تتوجه إلى الفرد بذاته ولا تهتم بتوجهه السياسي، أو العلمي، أو الأكاديمي، أو المهني، بل تسعى إلى تعليمه كيف يطور ذاته لتعطي أفضل ما تستطيعه.

نعم.. إن تطوير الفرد وتنمية مهاراته كان أولوية لدى المجتمعات البشرية منذ بداية تكوينها، إذ يبدو من البديهي أن يسعى كل بلد لتطوير أفراده الذين يشكلّ أي منهم وحدة رئيسية في تكوين المجتمع، فإذا تطور أثّر على مجتمعه إيجابا وارتقى به. ولذلك كانت القبائل البدائية تدرب المقاتلين على الحرب كي تضمن بقائها وتعلم الصيادين والرعاة كيف يقتنصون الطريدة حتى تؤمن غذائها.

فيما بعد، أخذ تطوير الفرد وتنمية مهاراته منحى جديداً في المجتمعات الحضرية ، فظهرت المدارس وحلقات التعليم من أجل إنشاء أجيال قادرة على المضي بمجتمعاتها إلى صدارة الأمم.

ولكن التنمية البشرية بشكلها الحالي، والذي يدعي اعتماد نوع من المنهجية العلمية ، لم يكن بالتأكيد وليد غرائز المجتمع البشري و حاجته للبقاء، ، ولعلّ بدايته كانت بعد اختراع الإنسان للكتابة. والواقع أننا نجد في كتب اليونان الأدبية والفلسفية أبواباً كاملة عن الأخلاق والسمو بالفرد لبناء مجتمع أخلاقي، كما نقع في جميع الديانات على قدر كبير من الاهتمام ببناء شخصية الإنسان، الخلوق الناجح، النافع لنفسه و أهله ومجتمعه. إذ يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في معرض حديثه "خير الناس أنفعهم للناس"، وفي مناسبة أخرى "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". وفي ذلك دعوة واضحة لبناء شخصية الإنسان الناجح والنافع.

أمّا في العصور الحديثة، وبالتحديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد تعرض المجتمع الإنساني كله لما يشبه الهدم، الذي اضطره إلى إعادة بناء نفسه من جديد، كان لا بد من التوجه للفرد الذي نجا بأعجوبة من تلك المقتلة، ومع ما حمله منها من آثار ورواسب أثقلت كاهله وصدّعت كيانه من أجل الاضطلاع بدوره كـ "بانِ" للعالم الجديد. لذلك كان من المهم إقناعه بالعمل على تطوير ذاته وصقل مهاراته والبحث عن طاقاته الذاتية الكامنة ، وهنا أتت كتب التنمية البشرية لتتوجه إليه بالقول "أنت مميز ... أنت قادر، بل خارق للعادة".

وقد أفرزت أربعينيات القرن الماضي، مجموعة من المؤثرات التي مثلت نقطة تحول أساسية في مسيرة هذا النوع من تقديم "الحلول"، والذي ظهر بُعيد الحرب العالمية الثانية على شكل كتب، أو ندوات ومحاضرات، تخفف عن الناس وطأة الظروف الحياتية، وتحثّهم على استكشاف ذواتهم بشكل أعمق، لاكتشاف المشكلات التي تقف أمامهم ومعالجتها بهدوء. ولا يزال كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" لديل كارنيجي، أو "كيمياء السعادة" لحضرة عنايت خان، أو "33 استراتيجية للحرب" لروبرت غوين، أو "فكر وازدد ثراء" لنابليون هيل..الخ، على غرار كتاب " السرّ " في أيامنا هذه، من الكتب الأكثر مبيعاً رغم أنها قد رأت النور قبل سنوات طويلة.

ولعل هذه الكتب قد حققت الغاية المرجوة منها في تلك الفترة ، فساعدت أشخاصاً على التفاؤل وبذل الجهود الحثيثة لتطوير أنفسهم. بيد أن ذلك لم يضمن لها الطريق الصحيح دائماً، أو يقف حائلاً دون تحولها إلى شكل تجاري، فيه من السلبيات قدر مافيه من الإيجابيات أو أكثر.
هكذا بدأت رحلة التنمية البشرية "التجارية"، التي ظهرت كتيّار فكري استغل عواطف الشباب، وبدأ يروج لنفسه من خلال ادّعاءات كاذبة وعبارات مبهرجة تلبي حاجاتهم، وأصبح له منهج يُدرس، وكتب تنشر أفكاره وقواعده، كما تسوقه له من خلال إعلانات وفيديوهات تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

وما نلمسه اليوم في أغلب كتب التنمية البشرية ومحاضراتها ، هو الكثير منها لا يستند إلى أساس علمي، إنما يلقن القارئ عبر قوالب لغوية رنانة فارغة ، تفترض أنها حقيقة لاتحتاج إلى برهان، فيقبل عليها كل من يجد في نفسه حاجة لتصديق أنه متفوق ، كي تساعده على مواجهة واقع الحياة الصعب والاقتناع بأن القوة التي بداخله قادرة على قهر الصعاب، فيبدأ بالبحث عنها والسعي لاستخراجها. ولكن هل يجدها؟

أما أخطر ما تنطوي عليه كتب التنمية البشرية فيكمن اليوم في أنها تؤدي إلى إغلاق عيني المتلقي عن الواقع، ما يخلق له واقعا بديلاً يشيده من التخيلات وأحلام اليقظة ، فيصبح العالم الخارجي بالنسبة له انعكاساً لعالمه الداخلي، ويتفاعل معه بهدوء. و هنا يبرز مصطلح البرمجة اللغوية العصبية كمثال، التي تدّعي قدرة الفرد على برمجة نفسه للتفاعل مع الظروف والأحداث و الأشخاص بطريقة مثلى، تضمن له القبول في الأوساط المحيطة كما توفر له الرضى الذاتي. لكن هذا غالباً ما يؤدي إلى كبت انفعالاته الطبيعية ، لتحل محلها ردود أفعال مصطنعة وفقاً لما تمت برمجته عليه مسبقاً. فهل يكون الإنسان هنا حراً أم أنه كائن مبرمج لا يملك من حريته شيء؟

وعلى الرغم من ذلك، تنتشر محاضرات البرمجة اللغوية العصبية في البلاد العربية انتشار النار في الهشيم، وتحظى هناك بإقبال كبير، لابل قد يدفع الناس شبه المعدمين أموالاً هم في أمس الحاجة لها ثمناً لساعات محدودة من التدريب، والحصول على شهاداتها الواهية مجهولة المصدر، والمزينة بأسماء رنانة تجعلها ذات قيمة بنظر المتلقي البسيط.

لكن البرمجة العصبية هذه ليست سوى غيض من فيض الدورات التدريبة والندوات والمحاضرات، المعنية بالترويج لما يسمى التنمية البشرية على أنها الحقيقة المطلقة والحل الناجع لكل راغب في السعادة الكاملة. هكذا تضم مكتبتها التي تبدو غير محدودة مؤلفات تحمل عناوين من قبيل (كيف تكون محبوباً، أعلى مراحل الوعي، إدارة الوقت، علوم الطاقة، مهارات الحياة، كيف تصبح غنياً. فكر وازدد ثراء.. إلخ).

ومن أهم مغريات التنمية البشرية ، أنها تختصر على طريق النجاح، وهو بطبيعة الحال نجاح وهمي، يستبدل بالدراسة الشاقة واكتساب الخبرة المضني والطويل ، دورة من 20 ساعة مثلاً يحصل منها المتدرب على شهادة مذيلة بلصاقة ذهبية. فالنجاح هنا لا يأتي بالجهد واكتساب الخبرات، إنما بمعرفة أين تكمن ذروة طاقات الفرد الداخلية. ولذلك لم يعد غريباً أن نرى أشخاصاً يغيرون أهدافهم في الحياة كل شهر، بل أحيانا خلال بضعة أيام، بفعل فيديو تنمية بشرية شاهدوه في يويتيوب، أو رسالة قرأوها لمدرب على فيسبوك، أو محاضرة سمعوها.

في المقابل، نرى أن بعض المتخصصين السابقين في هذا المجال قد انحازوا من جديد لجانب الواقع، وأخذوا ينتقدون بصراحة عملهم السابق ويبيّنوا مثالبه. مثلاً، قال مدرب التنمية الذاتية ستيفن هاندل في مقال له حول أخطار التنمية "أصبحت أكثر سعادة وأفضل حالاً بعد أن قللت من تفاؤلي وصرت عملياً أكثر من السابق... الأشياء السيئة يمكن أن تحدث أحياناً لأشخاص صالحين دون سبب وجيه، هذا لأن عقولنا -مهما كانت أفكارنا إيجابية ونوايانا نبيلة- ليست هي الشيء الوحيد الموجود في هذا العالم".

لم تطل نزهتنا كثيراً في أزقة دمشق، لكننا تعمدنا السير ببطء أنا وصاحبي لكي نكمل نقاشنا، فانعطفنا في شوارع فرعية وزواريب متداخلة تفضي إلى بعضها بعضاً كمتاهة أسطورية، حتى وصلنا إلى الساحة التي يؤدي إليها طريق القيمرية باتجاه الأموي. وهناك سألت صديقي في نهاية الحديث، والذي كان يعمل مديراً مالياً لإحدى الشركات منذ عشر سنين، وكان ضليعاً بمواضيع التنمية الذاتية ومؤمناً بها كما بدا لي من النقاش معه، سألته: ماذا كنت قبل التنمية البشرية؟

فأجابني " كنت مديراً مالياً."

سألته ثانية " والآن؟ "

فقال "مدير مالي سعيد".

وودعني