ما ندافع عنه أو نخشى عليه أو نعلي من شأنه قد يكون مصدرَ فشلٍ وإخفاق، وآية ذلك أننا نجد كثيرًا من المشاريع التحرُّرِية والنضالية أمستْ غير قابلة للتطبيق ولو بحدٍّ أدنى!؟
وهذا دَفَعَ علي حرب في كتابه (أصنام النظرية وأطياف الحرية) لنقد رمزين من المدافعين عن القِيَم والحريات العامة أو الكونية؛ فما يحاربونه ــ وفق رؤية علي حرب ــ جاء ثمرةً لتصوُّرِاتهم وخياراتهم، وتماشى مع عقلية الوصاية التي يجسِّد صاحبُها الوعيَ والضمير والعقل والاستنارة بمعزل عن الناس والمجتمع؛ وفقًا لتلك العقلية التي يزعم أصحابُها المعرفةَ التامة بالواقع الموضوعي وشروطه؛ فهذه الرؤية لم تنفكّ من كونها استراتيجية فكرية تأويلية سلطوية ــ وإن تدثرت بلباس الفضيلة والمُثُل ــ؛ فقد توافرت ــ كغيرها ــ على حوافز ودوافع، وتداخلت فيها المقاصد..
" وهناك علاقة بين النظرية والممارسة، أو بين المعرفة والسياسة عند كل من بورديو وتشومسكي؛ ذلك أن كليهما يصدر عن المنطق نفسه ــ منطق الهوية والتطابق ــ"
عقلية الوصاية على القِيَم صنعت نجومًا على حساب المهمَّشين والمستبعدين الذين بقوا يرفلون بمشكلاتهم المرشَّحة لمزيد من التفاقم والتدهور.. وقد يكون بروز عادة التقديس نتاجًا طبعيًا أو تلقائيًا لتلك العقلية ــ عقلية الوصاية ــ وهو ما يخلع ــ تالياً ــ طابع التجريد والتعالي على المعاني والقِيَم.. وينسى أو يغفل أنها ممارسات بشرية محدودة وعابرة؛ ليصل لمنطقة قتل الأفكار.. ويستوي في هذا التلغيم ممارساتٌ تقدَّس باسم الله والإيمان، وممارساتٌ أخرى تقدَّس باسم العقل والإنسان؛ فالخطاب في الحالين يرفع نفسه فوق الجدال، ويتجرَّد من الأهواء والرغبات، وتتداخل فيه المصالح والسلطات..
"ولو كان تقديس المعاني والرموز أو المثالات والنماذج مجديًا لما حصدنا كلَّ هذا الشقاء والدمار بعد قرون طويلة من العمل تحت يافطة الوحي والإيمان أو العقل والإنسان"..
هذان المنحيان يجلبان منطق المطابقة؛ فتُعامَل الأفكار بعقل ماورائي متعالٍ، ويُختزَل الواقع أو يُقفَز فوقه؛ وفقاً لتلك القوالب التي يتوهَّم فيها أصحابُها الإحكامَ، وهذا إيذانٌ بيِّنٌ بالفشل والإخفاق..
قد نحتاج التوقف عن مهاجمة واقعنا البائس، وقد نكون ملزمين بترك التباكي على القِيَم المهدورة، وعهودها الذهبيّة؛ لنتّجه للممكن من إصلاح للفكر والعقل بصوغ عقلية الشراكة، أو المسؤوليّة، وتجاوز عقليّة المصادرة..
تحت عنوان "تشومسكي ومأزقه الألسني من الناطق الفطري إلى الفاعل اللغوي" يتساءل علي حرب عدة أسئلة تدخلنا مباشرة في نظرية تشومسكي اللغوية:
هل تُكتسَب اللغةُ بالتجربة والمهارة؟
أم هي بشيء يحدث لنا كما تنبت الأسنان وتتكوّن الأذرعة؟
هل هي برنامج وراثي مزروع في الخلايا نقوم بتنفيذه؟
أم أنَّ علاقتنا بها علاقة إبداع وتوليد أو تحويل؟
ولِلَم شملِ هذه التساؤلات يتساءل علي حرب قائلا:
هل الذي يتكلم لغةً من اللغات مجرد ناطق بلغته؟
أم هو فاعلٌ فيها؟
فما مدى ممارسة تشومسكي لتلك الفوقية التي سحبها عليه علي حرب؟
اللغة البشرية مَلَكَةٌ فِطْرِيَةٌ تقوم على مبادئ عامة تتحكم في اللغات جميعاً، ويسمِّيها تشومسكي الكليات النحوية؛ فمن خلال التوليد، ومن خلال توظيف وسائل متناهية نحصل على صور غير متناهية.. وقد تعمَّد تشومسكي إظهار ثقوب البنيوية، وجعل ذلك متكأ؛ لإثبات نظريته دون أن يقوِّي نظريته من الداخل؛ فقد اشتغل حارساً لأفكاره، ولم يتقدَّم إلى الأمام لتطوير نظريته ــ بتعبير علي حرب ــ وذلك الأسلوب الرياضي المجرَّد ألغى النبض الحيّ، وهمَّش تلك الكثافة التعبيرية، ومحا تلك الشحنات الرمزية المتوافرة بكثرة في اللغات، أو التي تعتمد عليها اللغات.. وهذه هَنَاتٌ متوقَّعة نتيجة تلك المنهجية الغيبية الماورائية؛ فقد أمست تلك اللغة متعاليةً عن التجارِب والخبرات، بعيدةً عن أرض الواقع اللغوي المحسوس والمعاش.. وهذا ما يستلزم تجريد الإنسان من فاعليته وقصْر دوره في تنفيذ برنامج وراثي يسبقه..
ومأزق تشومسكي الرئيس يتمثّل في استخدام العقل اللاهوتي المدجَّن بالمنطق التقليدي للدفاع عن تلك الكليات النحوية.. ومثل تلك المبادئ العامة ظلت عاجزة عن رصد مراكز مهمة في التواصل اللغوي.. وبتعبير علي حرب: "مثل هذه الشبكة من المفاهيم لا تفي بوصف النشاط اللغوي وتفسيره"..
وجزء من ذلك الشغب، واعتراض على تلك التعميمات قد نتساءل:
لِمَ تتباين المستويات اللغوية بين الناس؟
وكيف يفسِّر تشومسكي ذلك؟
"المعرفة لا تعود قبضًا على الماهيّات الثابتة، أو الطبائع الأصلية.. بل تخلق واقعاً يتغيّر معه الفكر والواقع نفسه.." كما أنّ " الإبداع خروجٌ على آلية الطبيعة وتحوّل عن عماء الفطرة.." والفطرة نقيض المعرفة..
هذه الرؤية وذاك الإقصاء يدفعنا لطرح تساؤل عن دور المثقّف.. وهل هذا التناول يُلْزِمُ المثقّف بالتخلي عن دوره!؟
الدعوة التي يتبناها علي حرب ــ هنا ــ تدعو للإقرار بمأزق الأفكار في مجابهة ما يشهده العالم من تحوّلات ومستجدات تتجاوز تلك الأفكار؛ "فلا يعقل أن يتغيّر مشهد العالم وأن تتغيّر خريطة الواقع دون أن تتغيّر شبكات الفهم والتأويل، أو منظومة القِيَم والمعايير.."..
"وهكذا نحن إزاء طريقتين في التفكير: الأولى يتمسّك أهلها بالثوابت في قراءة المتغيّرات؛ لكي يفاقموا المشكلات، ويعيدوا إنتاج الأزمات.. أمّا الثانية فإن أصحابها يحاولون مجابهة التحديات والصدمات بالخروج على ثوابت الفكر والمعتقد أو على الأقل بممارسة العلاقة مع الثوابت بصورة حيّة ومفتوحة، أو متحرِّكة ومتحوِّلة.. والسؤال هنا: أيهما أكثر وفاء لِقِيَمِ المعرفة؟ من يعتقد بوجود حقيقة جوهرية أو كلية يضل الطريق إليها على الدوام بقدر ما يعتبرها ضالته المنشودة، أم الذي يحاول أن ينتج معارف حول الواقع يجدّد بها فكره بقدر ما يتحوّل عن مقولاته وقيمه أو عن أحواله ومواقفه؟!
هذا كلّه لا يمنع من كون تشومسكي من أعظم شخصيات القرن الماضي، وأكثرها جدلا.. وهو ما كرّره علي حرب في مواطن كثيرة من مماحكاته؛ فليس نقد تشومسكي نفيًا له بقدر ما هو إيمان بتأثيره ووجوده وفاعليته..
وأخيرًا نتساءل:
هل إقصاؤنا لصنميّةٍ ما يقذف بنا في أحضان صنميّة أخرى؟!
حققت البشرية ــ في العصور المتأخرة ــ كثيرًا من التقدُّم في مجال الحقوق والحريات.. زامن ذلك التقدُّم فقرٌ وظلمٌ وعنفٌ وعَسْفٌ.. وهذه الأوضاع المزرية مرشحةٌ للمزيد ــ في ظلِّ الأوضاع الراهنة ــ.. وهذا قد يدفعنا لرؤية الشرائع والقوانين استثناءات؛ انطلاقاً مما نتعرَّض له من خرق وانتهاك دائمين.. وتحديداً في العوالم التي تقع خارج الدائرة الغربية..
الأصل في العلاقات تحكمه شبكةٌ من المصالح مدجَّنةٌ بعلاقة القوة وإرادة السبق والتفوق، وربما إرادة الهيمنة والتسلط.. وبناءً على هذا فمن تحصيل الحاصل ــ بتعبير علي حرب ــ أن يحدّثنا تشومسكي أو غيره عن هيمنة الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، أو عن انتهاكها القوانينَ والمواثيق والأعراف.. وهو ما قد يدفعنا للاعتراف بهشاشة الضمير الإنساني، وأزمة القَيِم الكونية..
"من هنا تبدو المهمة التي يمارسها تشومسكي ــ كمحام عن حقوق الشعوب ــ مهمةً خادعة.. تجعل المجتمعات التي يدافع عن حقوقها وقضاياها تنام على قناعاتها الواهية، أو تتشبث بوضعياتها القاصرة.. بقدر ما تتوهم أن أزمتها هي وليدة علاقاتها مع الآخر لا غير.. بالطبع هناك مشكلة مع الآخر في الخارج، ولكنّها من الدرجة الثانية.. أمّا المشكلة الأولى فتكمن في العلاقة مع الذات والفكر"..
هذه النظرة الشمولية التي يقدمها علي حرب، وهذه اللغة الباذخة التي يبسط فيها علي حرب فكر تشومسكي، ويشرح نظريته تدعونا لاستحضار فكر وتعاطٍ يقوم على نقل جزئيات مبعثرة من فكر تشومسكي؛ دون إلمام شامل بفكر تشومسكي ودون استيعاب لنظريته، ولعلّ أوضح مثال لذلك ما يحاول الأستاذ الدكتور حمزة المزيني تمثله، ويبدو أنّ إعاقة وعسرًا في التعبير الشفهي بقي ينتقل إلى المستوى الكتابي؛ مهما حرص صاحبه على تنقيح الكتابة، وتجويدها!
في جانب آخر ذي صلة مباشرة، ومن موطن آخر يمارس صاحبُه وصايةً عامة ندخل لبورديو، وهو عالم فكر واجتماع، تنتظمه ــ مع تشومسكي ــ تلك الكليات التي يمارس معتنقوها الوصاية، أو وصايةً ما؛ فقد تصدّى لليبرالية الجديدة، وناهض النظام العالمي، كما أنه ذو حملات متكرّرة على وسائل الإعلام ــ مرئياً ومسموعاً ــ كما سعى لتفكيك آليات ومؤسسات الأطر والهيئات المجتمعيّة المختلفة كالعائلة والمدرسة والكنيسة والجامعة ــ فضلاً عن الدولة والنقابة والأحزاب السياسية ــ..
ويرى بورديو أن هناك خدعةً تُمارَس؛ فالنظام الاجتماعي يخفي ــ عبر طقوسه واستراتيجياته ــ ما يتأسس عليه بالذات؛ فيضمر منطق السيطرة ونظام الامتياز ــ بقدر ما يقدّم نفسه ــ عبر منظومة من الاعتقادات والعادات الراسخة، وينطلق هذا النظام الاجتماعي من كونه ــ أو زعمه ــ أنه بنية ثابتة وضرورية، تمليها الطبيعة البشرية، وهنا تكمن اللعبة أو الخدعة؛ لأننا ــ والحالة هذه ــ نخلع صفة الطبعي أو السويّ أو المشروع على ما هو مكتسب ــ من جهة ــ واعتباطيّ ــ من جهة أخرى ــ أو على ما هو ثقافي ومؤسساتي..
ومثال ذلك: مهنة رجل الدين التي تُحجَب تحت دعوى الخدمة الإلهية وامتلاك مفاتيح الخلاص.. كما أن من تلك الأمثلة ما يتستّر تحت الغطاء الحزبي كالشيوعية التي ترفع شعار الدفاع عن الطبقة العاملة؛ لتضمن سيطرتها على أتباعها..