حفلت أحداث اليمن السعيد (في الماضي البعيد) بما لم تنضب معه ذاكرة الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد. فامتلأت مذكراته بجزئها الثاني بما شهد اليمن في جنوبه تحديداً، حيث كثرت ندوبه وتوالت خطوبه.

ذاكرة وطن 2، حكى تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من وجهة نظر الرئيس علي ناصر محمد، بحكم انخراطه وسط تلك التجربة الخصبة، سلباً وإيجاباً، واغترف من نبع التاريخ ما يدعم شهادته ويسند تجربته الطويلة والمعروفة. وبرأت شهادته كثيراً من المتهمين ظلماً بما لم يقترفوا من جرائم اقترفها غيرهم من الرفاق.

لا يشكل حالة استثنائية أن كل كاتب مذكرات شخصية سينصف نفسه، ويلقي الضوء على ما خفي من دوره الإيجابي لا سيما وأن الصورة الذهنية المطبوعة عنه عكس ما سلط الأضواء عليه. فعلى الرغم مما اتسم به عهده كرئيس لليمن الجنوبي من انفتاح سياسي واقتصادي، إلا أن انقضاء عهده بأحداث 13 يناير 1986م الدامية كرست صورة ذهنية لدى الناس، فنسيوا وتغافلوا عما دوّنه التاريخ عنه ورفاقه من كفاح واجتهاد غيبته الدعاية السياسية المضادة التي صبغت -وما تزال- تاريخ اليمن وتكتب سِيَر كثير من رموزه وتُكوِّن سمعتهم بصيغة تجانب الموضوعية وتجافي الحقيقة.

لذا لا عجب في أن الناس بعد سنين انفتاح وبصيص الأمل وسيادة النظام والقانون -ولو قسراً- لا يذكرون غير سنين الانغلاق والألم ودورات الصراع والتأميم.

ولا يُستغرب تناسي الوحدة والتنمية والاستقرار والديمقراطية أمام مثول الحرب والتخلف والقلاقل والاستبداد.
ولا يُدهش من تجاهُل الحوار والتعايش وتخليد الحرب والتنافر.
سيردد بعض العارفين محقين:
"هم الناس لا يذكرون الجميل .. ولا يشكرون لمُسدٍ يدا"
وسيبرر بعض آخر: إن الآثار السيئة على حياة الناس أكثر خلوداً من الآثار المحمودة التي باتوا يتناسونها.

إنما التاريخ لا يغمض عينيه عما تحقق للناس مذموماً كان أو محموداً وتأثروا به وأثر فيهم، فلا يغادر صغيرة أو كبيرة مهما قصرت ذاكرة الناس وقبلت التشويه والتشويش.

ولأن أهل التاريخ يهتمون بكل صغيرة وكبيرة لم يهمل الرئيس المؤرخ، في مذكراته الصادر جزؤها الثاني عن دار المدى، كبير الشؤون وصغيرها وبدأ بشرح ظروف ميلاد أفدح خطوب الجنوب اليمني يوم 13 يناير 1986م وجعلها منطلق دفاع عن إطلاق الرصاصة الأولى نهار الإثنين الدامي، مع تحميل الجميع مسئولية ظروف إطلاقها. وهو ما دافع به عنه أمام السوفييت الرئيس الأثيوبي منجستو هيلا مريام الذي بدا كأنه "منجستو ناصر محمد" نتيجة نصرته ودفاعه وحمايته للرئيس علي ناصر محمد.

بخلاف التغطية الإعلامية الموجهة انحيازاً لطرف دون آخر ونصرةً لفئة أو "أمةٍ" مقابل "أختها" وتغذية العقول وحقنها بمقولات وإشاعات الدعاية السياسية، تابعت وسائل الإعلام العربية والدولية يومذاك صدى تلك "الرصاصة" ويسرت تأريخ الحدث بتغطية تتسم بالحيدة والموضوعية؛ من بينها صحيفة "الشرق الأوسط" عهد رئيس التحرير عرفان نظام الدين، التي رصدت مع بقية الصحف والإذاعات والوكالات العربية تحركات الرئيس علي ناصر وقد سمى نفسه "القيادة الشرعية" من يناير 86م إلى أن صدر برضا القيادة الجديدة برئاسة حيدر أبوبكر العطاس وأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني علي سالم البيض حكم الإعدام على الرئيس السابق وزمرته في ديسمبر 87م.
[.. من عجائب اليمن السياسية أن بعضاً ممن أصدروا تلك الأحكام غدوا مستشارين لبعض من صدر الحكم ضدهم..]!

إطلاق "رصاصة" أدى إلى إطلاق "كلمة أخيرة" تتمثل في حكم قضائي لا يخلو من التسييس والتصفية السياسية.. فرضته طبيعة المتغيرات السياسية واستنفرت ردود فعل يمنية وعربية ودولية واسعة أتى الرئيس علي ناصر محمد على ذكرها جميعاً ولم تغفلها مذكراته، وجدد ذِكر جريدة "الشرق الأوسط" وما نشرته من رسالة وجهها الأستاذ أحمد محمد نعمان عضو المجلس الجمهوري ورئيس وزراء اليمن الأسبق، إلى عثمان العمير رئيس تحرير جريدة "الشرق الأوسط".

وتحت عنوان تصدر الصفحة الأولى من الجريدة يوم 16 ديسمبر 1987م "عبر رسالة للشعبي عمرها 20 عاماً: النعمان يناشد العطاس والبيض النظر في أحكام الإعدام"، وبعد مقدمة خبرية عن توالي ردود الفعل الدولية والعربية مطالبة بتخفيف أحكام الإعدام التي أصدرتها المحكمة العليا في اليمن الديمقراطية، ومناشدة منظمة العفو الدولية وعزم وفد من المحامين العرب بزيارة إلى عدن في محاولة للتوسط، نقلت الصحيفة رسالة الأستاذ الراحل:
"... وجه السيد أحمد محمد نعمان، رئيس مجلس الوزراء وعضو المجلس الجمهوري اليمني سابقاً رسالة إلى رئيس تحرير "الشرق الأوسط" قال فيها: لقد أفزعني وأفزع كل مواطن أن تتضاعف النكبات على أوطاننا وعلى مواطنينا، في هذه الأيام العصيبة، التي تتكتل فيها قوى أعداء العرب لمحاربتنا، وتمزيقنا شر ممزق.

ووصف حكيم اليمن الذي بعث رسالته من جدة حيث يقيم: إن اختيار هذا الوقت لإعلان أحكام الإعدام يثير الشك والريبة ويحزن كل مخلص وناصح، كما يجعله يشفق على الذين يملكون الشجاعة لإصدار هذه الأحكام في هذا الوقت بالذات، وكأنهم يساعدون الأعداء على أنفسهم وعلى مواطنيهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، ويحولون مؤتمر القمة العربي إلى مهزلة وسخرية". (يقصد مؤتمر القمة المنعقد بعمان، الذي ناقش كثيراً من الأمور العربية التي تستوجب التضامن وحشد الطاقات العربية والوطنية).

ويضيف الشيخ اليمني الكبير في رسالته لـ"الشرق الأوسط": إنه على الرغم مما نكابده ونعانيه من الألم والحسرة، والتزام الصمت، فإنه ليعزي نفوسنا موقف الأشقاء والأصدقاء الذين سارعوا بالنصيحة للأبناء في عدن، أن يتذرعوا بالصبر والحكمة والأناة ويؤجلوا هذه الأحكام. وقد كان فخامة الابن البار الرئيس علي عبدالله صالح من السباقين في النصيحة لإخوانه وأشقائه في شطرنا الجنوبي.

ثم يختتم الزعيم اليمني رسالته إلى رئيس التحرير قائلاً: وإذا كان أبونا آدم قد سن الأخطاء والمعاصي لأولاده، فقد وسعته رحمة الله ومغفرته، بل لقد اجتباه سبحانه وتاب عليه وهداه، فلتكن لنا أسوة بأبينا آدم وثقة بعدالة الله ورحمته. ولقد وجدت بين أوراقي القديمة رسالة عمرها 20 عاماً بعثتها للابن المرحوم الرئيس قحطان الشعبي وأكتفي الآن بنشرها في صحيفة العرب الدولية "الشرق الأوسط" عسى أن يقرأها الأبناء في عدن وعلى رأسهم الرئيس حيدر أبوبكر العطاس ورفاقهم من الأبناء، "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"..".
ومما جاء في رسالة الأستاذ النعمان إلى الرئيس الشعبي في أوائل ديسمبر 1967م:
"كونوا مدرسة أخلاقية إنسانية واضربوا المثل للذين يتخذون من السلطة وسيلةً للانتقام والبطش..
اشعروا الجميع حتى الذين اختلفوا معكم وناصبوكم العداء أنكم فوق الخصومات وفوق الخلافات..
أرجو ألا تستبد بنا نشوة الانتصار على إخواننا ومواطنينا مهما كان الخلاف.
انتصروا على أنفسكم وأهوائكم في هذه اللحظة، وهذا هو الانتصار الحقيقي.
آمل.. أن تتركز الجهود الكبيرة لتحقيق السلام النفسي وكسب الجبهة الداخلية..

احذروا من الإسراف بالوعود للجماهير وللناس ومن التبشير لهم بالاشتراكية التي حولها الكثيرون إلى إباحية مطلقة لنهب الناس وسلب أموالهم ولم يكسبوا من وراء ذلك سوى المزيد من الفقر والإفلاس".

مع الأسف لم تُجد الرسالة نفعاً في تاريخها، وبعدها، ولم تفلح المناشدات كلها في لحظتها.. واستمرت المأساة وتوالت الخطوب في تاريخ الجنوب اليمني من بعد الاستقلال إلى حروب الوحدة وصراعات السلطة.

* رئيس منتدى النعمان الثقافي للشباب، صحافي وباحث سياسي يمني