مازلنا بعيدين كل البعد عن اعتبار الشباب فاعل أساسي في بناء البلاد علاوة على وكونه شريك فعلي في إنجاح عملية الانتقال الديموقراطي. هذه الحقيقة التي لا مفر من الاقرار بها اذا اردنا النظر الى وجوهنا في المرآة بلا خجل ومواربة ونصارح انفسنا بأننا كمجتمعات تقليدية فشلنا في ارساء آلية التداول على الحكم والتقرير وإدارة الشأن العام جيلا بعد جيل.

الشباب في تونس ورغم انه يمثل ثلثي اجمالي السكان، الا انه وجد نفسه بين فكي السجون والتهميش بمساعدة عجيبة من نخب فاسدة تفننت في اضاعة الفرص على نفسها وعلى غيرها. هي نخب منبتة تماما عن واقع الشباب وانتظاراته وتمثّلاته. وفي هذه الحالة المستعصية على الفهم، كيف يمكن ان نُفسّر اذا كيف يمكن لقاض ان يحكم على مجموعة من الشباب بثلاثين سنة سجنا بسبب استهلاكهم للحشيش؟ وماذا تبقى من العمر لهؤلاء؟

نحن بصدد الدوران في حلقة مفرغة تقوم على متلازمة عمى الألوان. فالمنظومة القائمة لم تعد تشتغل منذ زمن بعيد وهو ما دفع بالشباب والطبقة الوسطى الى الانتفاضة على نظام بن علي المنغلق، وهو السبب نفسه الذي يدفع المئات من الشبان الى الخروج للتظاهر ضد النخب الحاكمة والتمرد على كل القوانين والمحاذير والاطر التقليدية.

يرتكز تاريخ العلوم على تجدّد وتَغيُر براديغمات التفسير والتحليل والفهم. فقدر الانسانية ان تجِد لنفسها مخرجا وحلولا وآليات مستحدثة كلما تغيّر المجتمع وتبدلت احتياجاته وهذا يؤدي الى تفكك المنظومة القائمة طوعا او عبر صراع مع القوى الجديدة لأنها بكل بساطة لم تعد تستجيب لإنتظارات الحاضر. وهذا ديدن التاريخ و الانسانية.

السؤال الآن اين نحن من كل ذلك؟ وهل استمعنا لصوت الشباب؟
في الحقيقة فإنّ تعامل النخب القائمة بمختلف تشكُلاتِها وانتِظامها من إدارة وقوانين وساسة ورجال اعمال، مع الواقع، يدُل دون عناء كبير بأنها لم تستوعب كل هذه التغييرات التي عاشتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، وقد تكون استوعبت ذلك لكنها تُعاند وتُكابر مع سبق الاصرار والترصد. وهو الأقرب الى الواقع.

ان البنى التقليدية لا تتغير بسرعة بل ان الإطاحة بها، قد يستدعي نفسا طويلا من الصراع يمكن ان ينعكس في الثورات والانتفاضات وغيرها من اشكال الاحتجاج السلمي والعنيف.

في هذا كله، لا يطلُب الشباب المحتج سوى الاعتراف الاجتماعي به بما في ذلك الاقرار بأن هذه الفئة الهشة هي فئة قائمة بذاتها لها رؤيتها وتطلعاتها وطموحاتها، وان مواجهة هذه المطالب بالعنف والقمع بقوانين بالية مثل قانون المخدرات الزاجر، لن يزيد هذه الفئة الا نِقمة على النخب القائمة.

يُمكن لم يريد ان ينصت لصوت الشباب ان يستمع الى اغاني الراب وفن الشارع واغاني الفرق الرياضية، وهي محامل تعكس حجم الهوة التي تفصل الشباب التونسي والنخب الحاكمة.

الآن دخلنا فيما يُسمى بالأنانية البدائية التي اصبح فيها الخلاص الذاتي والجهوي والحزبي والمحلي هدفا لكل الفئات الاجتماعية في تونس، واهملنا بسبب ذلك التفكير الاستراتيجي الذي يخطط لتونس ولمستقبل شبابها.

ان الانانية عندما تتحول الى غاية ووسيلة في حد ذاتها، قد تُهدد كيان الوطن برمته لانها تضرب في عمق كل اسس العيش الانساني المشترك، واذا غابت المعايير والقيم التي تنظم العيش الجماعي المشترك فإننا نتجه لا محالة الى دولة فاشلة، يسيطر عليها قانون الغاب.

توجد قاعدة بسيطة تتلخص في ان لكل زمانٍ رجال ونساء تخدمه. أي ان هذه السيرورُة المُتحركة دائما والمتغيرة والمتصارعة فيما بينها تشتغل وفق آلية التجديد وجدلية القديم والجديد لأنه في نهاية الامر لا يمكن لنفس المنظومة ان تساير وتفهم وتتأقلم مع كل العصور والأجيال.

لقد فَهمت الشعوب الحداثية ذلك منذ القرن السابع عشر فانقلبت البورجوازية على الارستقراطية و العلم على الكنيسة والعقلانية على الخرافة واصبح الانسان محور الكون، وادى كل ذلك الى تقديس الفرد لذاته وكينونته وكُتبت كل الدساتير و القوانين من اجل ولأجل هذا الفرد المتحرر من كل القيود البالية الاجتماعية والقانونية والدينية.

بالنسبة للدول والشعوب التي تُفكر في ذاتها وتتجدد باستمرار، فقد ادركت في وقت مبكر بأن الاستثمار في الشباب هو استثمار في المستقبل كما وعت جيدا ان انحراف الشباب هو جزء أساسي من تكوينه البيولوجي والنفسي لذا سعت الى فهمه وإيجاد الحلول الملائمة لاحتوائه وتحويله الى قوة انتاج وابداع عوض وصمه وتهميشه بدعوى انه منحرف ومجرم.

ان حبس شباب استنادا الى قوانين ردعية مُستمدة من انظمة قمعية منغلقة لا تَتحمل مسؤوليته المؤسسة القضائية لوحدها وانما كل المُجتمع، ودورنا حينئذ يُصبح، حتى نَرفع المظلمة على الشباب، هي ان نصرخ بصوت واحد...
الحبس لا.