كثيرا ما كان الرئيس الأميركي السابق رونالد ترمب يتفاخر بانه عقد صفقات تجارية وعسكرية ومالية كبيرة مع السعودية، وصلت الى حدود نصف تريليون دولار لصالح الولايات المتحدة الاميركية والمملكة، وقد سجلت الصفقات بأكبرها في تاريخ علاقات الدولتين، ويذكر ان التحالف الاميركي السعودي ليس بجديد ولا وليد اليوم، حيث يرجع تاريخه الى عهد الملك المرحوم عبد العزيز بن سعود والرئيس فرانكلين روزفلت منتصف الاربعينيات من القرن الماضي، حيث حصلت المملكة نتيجة ثقة الولايات المتحدة بها على القيادة الاقليمية بالمنطقة واعتبارها جزءا حيويا من المصالح الحيوية الاميركية، وقد تكلل هذا التحالف بازدهار السعودية واستقرار دول الخليج العربي لعقود وسنوات طويلة وما زالت، وقد سمح هذا التحالف ايضا للمملكة بلعب دور قيادي حكيم لقيادة الخليج والمنطقة مستندا الى العقلانية والمسؤولية والحرص في حماية شعوبها وتقدم دولها، وذلك من خلال اتباع سياسة واقعية سليمة منبعها السلم والبناء لابعاد المنطقة عن دقات اجراس الحروب التي تندلع بين فترة واخرى في بعض جهاتها، وخاصة في عهود سنوات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا السابقة وما بعدها، وبعد سقوط جدار برلين، وتحول الادارة السياسية والقيادية للعالم الى قطبية واحدة.

ولكن من المؤسف فان السياسة الاميركية بالرغم من ثباتها واعتمادها فقط على خدمة مصالحها في مناطق العالم، وخاصة في الشرق الاوسط، الا ان التغيير في تكتيكات السياسة قد تحصل وتتخذ مسار لها في سياسة واشنطن لتحديد التعامل وقراءة الرؤية الاميركية تجاه قضايا المنطة، وخاصة في القضايا والملفات المصيرية التي بقيت دون حل، وقضية العلاقات بين ايران والمملكة ودول الخليج.

وملفات اخرى مازالت عالقة منها الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وقضية الحقوق القومية للامة الكردية في تركيا وايران وسوريا، وقضايا تقسيم المياه، وقضية التطرف الديني وتنظيم داعش الارهابي، وقضايا ساخنة اخرى متعلقة بافرازات اندلاع ثورات الربيع العربي في عهد الرئيس الاميركي باراك اوباما، والمؤلم ان الربيع لم يقدر على بلوغ اهدافه في سوريا واليمن، ولكنه نجح في مصر بتضحيات قليلة وفي ليبيا بتضحيات وخسائر كبيرة، والملفت ومن باب الحكم الرشيد فان المملكة السعودية ودول الخليج تمكنت من امتصاص اثار هذا الربيع المشؤوم، وخرجت شعوبها وقياداتها بسلام وامان لرجاحة الحكم القائم واتزانها وانصافها بالحكمة والتفاني في خدمة الشعب من خلال ضمان حاضره ومستقبله بكل المستلزمات والاحتياجات المادية والحياتية والمعيشية والانسانية.

والمعلوم ان تلك الضمانات التي وفرتها المملكة ودول الخليج لشعوبها لتعيش بكرامة ورغد لكافة مواطنيها، غائبة تماما عن اغلب دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا والبعض منها يعاني من ابسط الحقوق المعيشية والانسانية، ولهذا نجد ان الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتلك الدول يعاني من اضطرابات وتوترات وتصادمات وازمات وحتى حروب اهلية في بعض الاحيان.

ولكن يبدو ان السياسة الحكيمة لقيادة المملكة السعودية لا تسر الولايات المتحدة في بعض الاحيان، وقد تلجأ حكومتها احيانا الى فرض قيود معينة على المملكة لاسباب قد تكون تكتيكية اكثر منها سياسية، وعلى سبيل المثال تخفيض مستوى التعاون المعلوماتي بين واشنطن والرياض بشأن الحرب الطائفية بقيادة الحوثيين المفروضة بدعم ايراني ضد المملكة وشعبها وحكومتها وضد الشرعية في اليمن، وكذلك اعلان الولايات المتحدة بعهدها الجديد وقف بيع السلاح الى المملكة الى حين، ويبدو ان كل ذلك لاسباب تعود الى قراءة جديدة لاوضاع منطقة الشرق الاوسط من قبل السلطة الاميركية بعد انتخاب وفوز المرشح الديمقراطي الرئيس جو بايدن.

ومقابل هذا الموقف المتسم بغرابة موقف الولايات المتحدة تجاه الحليف التاريخي المملكة السعودية في االعهد الديمقراطي الجديد، نجد ان واشنطن تغازل ايران التي تقف وراء اغلب الازمات والمعاناة والمآساة والحروب الطائفية المستعرة في المنطقة وخاصة في العراق وسوريا واليمن، والغريب وبرغم قصف القنصلية والسفارة والمرافق الاميركية في بغداد واربيل وبلد من قبل مجموعات مسلحة تابعة لايران، نجد ان الرئيس جو بايدن يرسل رسائل مغازلة ومجاملة الى طهران بشأن الاتفاق النووي للبدء بالتفاوض من جديد، والمشكلة انها تحمل في باطن سطورها نوعا منن الحث تدفع ايران باحتسابه كشحنة مقصودة لتصعيد المواقف الايرانية المتشددة عسكريا وامنيا في المنطقة، واشارة لرفع درجة توتر علاقاتها باتجاه المملكة وبعض دول الخليج، ولهذا لا يمكن وصف الموقف الاميركي الجديد الا بالتخاذل تجاه الرياض وتجاه قيادة المملكة، وبالتأييد المجامل لسياسات ايران المسببة للاضطرابات والتوترات والازمات الامنية الاقليمية.

ولذلك فان الحكمة والمنطق والعقل تستدعي توقفا استراتيجيا مقابل الموقف الاميركي الجديد المغاير لضمان الامن في المنطة، ومن خلال القراءة العميقة لهذا التوقف لابد من اتخاذ سياسة وقائية واستباقية من قبل القيادة الحكيمة للمملكة لامتصاص التخاذل الاميركي وامتصاص التوترات التي تخلقها النظام المذهبي الحاكم في ايران، وذلك بالتعاون مع دول الخليج التي تؤمن بالدور الحكيم والقيادي للسعودية في حماية المنطة، ومن اهم اولويات السياسة الوقائية الدفاعية التي تتطلب تبنيها هي العمل الاستراتيجي على احتضان العراق ضمن مجلس التعاون الخليجي، وذلك للنهوض به والاعتماد عليه كقوة عسكرية وامنية واقتصادية لحماية العراق والمملكة ودول الخليج من توترات ايران ومن الصراعات الاقليمية والدولية القائمة في منطقة الشرق الاوسط.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي لابد من المساعدة القصوى للمملكة ودول الخليج لاقامة تحالف من قوى شيعية وسنية وكردية متسمة بالروح الوطنية العراقية، والبعيدة كل البعد عن التأثيرات الاقليمية والدولية، وغير خاضعة للنفوذين الايراني والتركي في داخل العراق، ولابد من الشروع في هذا العمل في اقرب فرصة لتمكين التحالف من الدخول في عملية الانتخابات النيابية التي من المؤمل اجرائها في شهر ايلول من السنة الحالية، وليس بشك فان للملكة القدرة الدبلوماسية الحكيمة والرشيدة لمساندة واقامة مثل هذا التحالف لصالح العراقيين والشعب السعودي وشعوب دول الخليج وشعوب المنطقة باجمعها، وذلك من اجل اقامة السلام الدائم والبناء المزدهر وتحقيق التنمية الحقيقية للجميع في الحاضر والمستقبل.

والله من وراء القصد..