استعان كارل يونغ في أواسط القرن العشرين بالدين والتدين والتراث الديني معتبرًا ذلك نظامًا نفسيًّا يقود إلى الراحة والطمأنينة والرضا... وهي فرضيّة فتحتْ شهيّة الأصوليّات الدينيّة للتوسُّع بما يسمَّى العلاج الدينيّ؛ حتى صار ذلك العلاج حلا سحريًّا؛ لاسيما في عالمنا الإسلاميّ، أو العربيّ تحديدًا؛ بدءًا بالرقية الشرعيّة، ومرورًا بالطبّ النبويّ، والعلاج بالقرآن، وصولا إلى إخراج الجنّ من أجسام الأنس، وأخذ تعهُّدات عليهم بعدم العودة لتلك الأجسام المنهكة!
شوَّهتْ مظاهرُ التديُّنِ العلمانيّةَ كثيرًا وطويلا؛ لكنّها لم تستطع إيقاف زحفها؛ حتى نافست العلمانيّةُ الأديانَ في مسارب كثيرة بدءًا من إيجاد وتوفير وسائل العلاج الروحي وانتهاء بتدشين عصر ما بعد الأديان؛ بعد أن فقدت كثيرٌ من الروحانيّات طابعها الديني.
العلاج العلماني للروح يأتي -كما يرى سعيد ناشيد - من خلال الأدب ومجالاته، والسينما العالمية، والمسرح الحيّ، والمدرسة، والمعمل، والجامعة، والفضاء العمومي، ووسائل التواصل والإعلام... وكلها مفردات وأدوات تنتمي للحياة، وتأتي من داخلها... وهذا العلاج وطريقته تختلف عن العلاج الديني ومنزعه الذي يقوم على أرضية خارج الحياة... وتبقى الطمأنينة -لدى الجميع- هي المطلب الروحي الأكثر إلحاحًا وجذريّة بالنسبة للكائن الإنسانيّ، الذي خُلِق متوترًا، لا يستطيع الجلوس نصف ساعة في صالة انتظار؛ دون أن يقطعها أو يقطِّعها بالدوران والقيام والجلوس، وتشبيك الأصابع وفرك الكفين، وغيرها من حركات وسلوكيات دالة على التوتر.
التقدم العلمي لا يوازيه تطورٌ في سبيل تعزيز الإنسانيّة وكينونتها، وهذا جعل العالم المعاصر يعاني من أزمات روحيّة واضطرابات نفسيّة متفاقمة، كما أن الأديان لم تسهم بعد في تحقيق الأمان والسكينة؛ بل إن الصراعات الدينية هي الأعنف والأشد... ويبقى شقاء الإنسان المسلم مضاعفًا؛ إذ يشعر باهتزاز الثقة بمعتقداته بسبب الهزيمة الحضارية التي تشمل أغلب مناحي الحياة، وتقذف به بعيدًا في تخلف لا يجد منظورًا قريبًا للخلاص منه.
قد تسهم الفلسفة في فهم أزمات الحضارات؛ باعتبار هذه الأزمات أزماتٍ روحيةً بالأساس، وقد تحمل الفلسفة في هذا الطريق شيئًا أو كثيرًا من الإزعاج؛ لكن الطمأنينة المرتجاة ليست نقيضًا لهذا النوع من الإزعاج؛ لأنه إزعاج صحيّ يهز المسلَّمات، ويختبر اليقينيّات ويشغب على الثوابت.
الاعتراف بالمشكلات ومواجهتها مبكرًا يقود إلى فهمها و استيعابها، ووضع حلول فاعلة كفيلة بالتغلب عليها؛ فالطمأنينة القائمة على الأوهام تؤجل شقاء الروح؛ حتى يتفاقم! .