لم يمارس الشعب الفلسطيني حقه الدستوري والقانوني في ممارسة السلطة واختيار ممثليه في السلطتين الرئاسية والتشريعية إلا مرتين؛ الأولى في انتخابات عام 1996 عند اختيار ممثلي السلطة التشريعية وانتخاب الرئيس ياسر عرفات أول رئيس منتخب، وهي الانتخابات التى فازت فيها "فتح" تشريعًا ورئاسة لتكتمل سيطرتها على مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير؛ والثانية في انتخابات عام 2006 التي فازت فيها "حماس" بالمجلس التشريعي والحكومة، فيما فازت "فتح" بالرئاسة.

منذ ذلك التاريخ، لم تجر أي انتخابات. وبحسابات الأرقام، لم يمارس الفلسطينيون حقهم كمصدر للسلطات على مدار أربعة وعشرين عامًا، عشرة أعوام بين الانتخابات الأولى والثانية، وأربعة عشر عامًا منذ انقلاب "حماس" وسيطرتها على غزة والتنازع على الشرعية والتمثيل. وكانت هذه الفترة كفيلة بتضخيم السلطة وتقوية النزعات الأمنية القمعية وتكميم الأفواه، إضافة إلى تقليص هامش الحرية وممارسة الحقوق التى نص عليها القانون الأساسي الفلسطيني.

نجم عن تغييب دور الشعب بصفته مصدرًا للسلطات تجميد الشرعية السياسية واحتكار السلطة وضعف مؤسساتي وتراجع في فاعلية وتأثير القرار السياسي الفلسطيني في كافة مستوياته. وأتت النتيجة الحتمية لعدم ممارسة الشعب سلطاته فشلًا في بناء نظام سياسي ديمقراطي توافقى حاضن لكل مكونات القوة الفلسطينية، وكإطار لصناعة القرار الذى يشارك فيه الكل مما يدعم الخيارات والمقاربات الفلسطينية، وفي بلورة الأهداف الوطنية الفلسطينية العليا والآليات اللازمة لتحقيقها، وفي مقدمها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. من هذا المنظور، عدم إجراء الانتخابات على مدار هذه الفترة الطويلة يعنى تراجعًا في المدة نفسها لتحقيق الأهداف الوطنية. والشعب كمصدر للسلطات منصوص عليه في كل المواثيق الدولية. ففي المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نص صريح مفاده أن الشعب مصدر السلطات ويعبر عن هذه السلطات بممارسة الانتخابات الدورية المتفق عليها والنزيهة.

تؤكد الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الإنسان أن لكل مواطن الحق في أن يمارس حقه في التصويت والترشح في الانتخابات. هذه حقوق فطرية مثبتة دوليًا، ومثبتة في القانون الأساسي الفلسطيني. وعدم إجراء الانتخابات في مواعيدها يعد انتهاكًا لهذه الحقوق وتعديًا عليها.

في هذا السياق، إصدار المراسيم الرئاسية بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني يمثل استعادة لممارسة الشعب الفلسطينى حقه في إختيار ممثليه ونوابه، وتجديدًا للشرعية السياسية والمؤسساتية.

ربما يتساءل بعضهم كيف لهذه الانتخابات وحالة الانقسام قائمة ومتجذرة، والرد ببساطة أن إجراء الانتخابات النزيهة والشفافة وفي ظل ضمانات قانونية وسياسية ومراقبة دولية وإقليمية إسقاط لحالة الانقسام، لأننا سنكون امام حكومة وطنية واحدة ومؤسسات سياسية لها صفة الشرعية واتخاذ القرار الملزم.

من أهمية هذه الانتخابات وضرورة إجرائها تعبير عن إرادة الشعب الفلسطينى وتأكيد على وحدانيته ورفض لكل مشروعات تهدف إلى تفكيكه وتجزئته في بقع ومناطق منعزله بحكم الاحتلال والانقسام. وعلى مدار الأربع وعشرين عامًا من عدم ممارسة الانتخابات عبر الشعب الفلسطيني ومن خلال وسائل كثيرة عن رفضه كل مظاهر الاحتلال، وكل انتهاك لحقوقه الأساسية من قبل من يمارسون السلطة والحكم في الضفة وغزة، وخرج الكثير من صور الاحتجاج الشعبى التى قوبلت بالقمع.

الآن، دور الشعب الفلسطيني أن يؤكد حقه في ممارسة السلطة وأنه مصدر لكل السلطات. وأي تقصير في ممارسة هذا الحق يتحمله الشعب الفلسطيني الذي يملك الكفاءات والخبرات والعقول ونسبة التعليم لديه عالية جدًا، ما يمكنه من ممارسة السلوك الديمقراطي والاختيار الانتخابي السليم. ويقول الصحفى والروائي البريطاني جورج أوريل إن الشعب الذى يتبنى الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة لا يعتبر ضحية بل هو شريك في الجريمة.

تأتى الانتخابات الفلسطينية بعد الانتخابات الأميركية وفوز الرئيس جو بايدن الذي سيكون اكثر انفتاحًا على الفلسطينيين بعد القرارات الكارثية التي اتخذتها إدارة دونالد ترمب السابقة، وبعد الانتخابات الإسرائيلية المقرره في مارس، وبعد التحولات في العلاقات العربية - الإسرائيلية. لذلك هي خيارات حتمية ولا مجال للتراجع والفشل فيها، فالحاجة الوطنية تستوجب سلطة فلسطينية واحده ولها صفة الشرعية حتى تكون قادره على التعامل والتكيف مع التحولات الإقليمية والدولية. لهذا تحتاج إلى إفراز نخبة قوية تحمل رؤية وبصيرة سياسية نافذة وقادرة على التعامل مع هذه التحولات بما يحقق المصلحة الفلسطينية.

الأهم من كل ذلك المشاركة السياسية الواسعة فيها بما يتيح التداول في السلطة والتداول في الأجيال السياسية التي حرمت من الانتخابات والمشاركة. وستكون هذه الانتخابات رسالة قوية عالميًا على مستوى المشاركة وعلى مستوى القبول بنتائجها. وفي حال نجاحها، ستشكل مرحلة مهمة في النضال السياسي الفلسطيني. فالانتخابات من أهم المقاربات السياسية في تحقيق الأهداف السياسية الفلسطينية، وليس مجرد الوصول إلى السلطة، والأهم إدارة السلطة التي ستفرزها هذه الانتخابات.