الخُلق الرفيع هبة ربانية عظيمة تجمل من اتصف بها، وتلقي عليه من القَبول والمحبة ما لا يُستجلَب بمال.
ووافر العقل مَن هَذّب خلقه وصقل نفسه، ووطَّنَها على الاتصاف به.
ذو الخلق الحَسَن له كاريزما خاصة بين الناس.. يسير ويلقي بهالته على الآخرين.. حين يتحدث يُسمَع له، وحِين يَصمت تجد في صمته طمأنينة، وحين يَضحك يَعُمّ بفرحته أرجاء المكان، حتى حين يخطئ يتلمس الناس له وجه الصواب، أو يعذرونه.
للخُلق الرفيع منازل سامية لا يبلغها الإنسان بفضيلةٍ أخرى غيرِها، وهذه الصفة العظيمة تاج الفضائل، ومنتهى المكارم، ولن تجد إنساناً يتصف بها إلا وقد نال معظم الفضائل، ولن تجد أحداً فقدها إلا وقد تجمعت فيها أكوام النقائص.
كان العرب في جاهليتهم رغم ما هم فيه أخطاء يحتفون بمكارم الأخلاق، وعلى رأسها الكرم والشجاعة والعفة والصدق والنجدة والمروءة والوفاء.
وهذا عنترة بن شداد الفارس الجاهلي الفاتك، والشاعر الباهر يرى جارته تمر أمامه في وضع يستوجب الستر، فغض طَرْفه وقال بيته الشهير:
وأَغُضُّ طَرْفي إن بَدَتْ لي جارتي* *حتى يواري جارتي مأواها
وبسبب هذه المروءة العالية لهذا الجاهلي المشرك رُوِي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ما وُصِفَ لي أعرابيٌّ قَطُّ فأحببتُ أن أراه إلا عنترة»، والحديث إن كان محل شك في صحة سنده فهو محل يقين في صحة معناه.
وعندما حاصر المشركون بيت المصطفى ﷺ في ليلة الهجرة النبوية الشريفة لام المشركون أبا جهل؛ لأنه لم يقتحم بيت الرسول ﷺ، وقالوا له:
كيف تركتم محمد يخرج من بين أيديكم ويلحق أصحابه؟ لمَ لمْ تكسر الباب عليه؟!
فرد عليهم بكل غضب: وتقول العرب إن أبا الحكم روّع بنات محمد؟! وهَتَكَ حرمة بيته!
نعم كانوا مشركين لكنهم كانوا أصحاب نخوة، ولا تكتمل رجولة أحدهم ما لم يكن ذا شهامة ومروءة.
وحين بُعث الحبيب المصطفى ﷺ أقر الفضائل، وطمس الرذائل، وجعل في الناس منهجاً ونبراسا، وكان أكثر ما يحث عليه الخُلق الحسن، حتى إنه قال:
«إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»، وكيف لا يكون هذا مسعاه وهو من قال فيه الله جل علاه: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم}.
ولا شيء يُظهر أخلاقَ الإنسان، ويُجَلّي حقيقته كالمواقف التي يمر بها، فبهذا يُعرَف الكرام، ويتفاضل الناس، وما زال حصفاء الناس يُمَيِّزون بين الأفاضل والأراذل من مثل هذه المواقف.
وأسوأ أخلاق الإنسان نكران الإحسان، فما إن يحصل بعضهم على مراده حتى يسحب ذيل الجحود، وربما دفعه إحسان المحسن إلى تعمد الإساءة إليه إمعاناً في اللؤم والخسة.
يباغتك في البدء بعذب الكلام كما قال الشاعر:
يُعطِيكَ مِن طَرَفِ اللسانِ حلاوةً* *ويَروغُ منك كما يَروغُ الثعلبُ
فإذا نال مراده صح قولي فيه:
يُبدي الليونةَ إن أرادَ معونتي* *ويكادُ يَلْثِمُ راحتي وحذائي
حتى إذا نال المرادَ أذاقني* *كأسَ الجحودِ وجار في إيذائي
على مَحَكِّ الاستغناء يتهاوى المتصنعون والوصوليون، فما إن يَستغني أحدهم ويَعتمد على ذراعه حتى ينسى الذراع التي استَنَدَ عليها، وواسَتْه، وأقالَتْه من عثراته، ودَفَعَتْ عنه أذى الأيام!
ولشدة ألم الاستغناء في نفوس الكرام واساهم الله سبحانه بكشف حقيقة الإنسان الطاغي، فقال: {كلا إن الإنسان ليطغى، أنْ رآهُ استَغْنَى}.
إنه الاستغناء كاشف الطباع، فجرّب به من تشاء، وأنزل الناس منازلهم.
التعليقات