لكل منا قصته الخاصة التي يتفرّد بها وحده، يسرد تفاصيلها بملامحه، ويدوّن لحظاتها بحواسّه كلها، ليس شرطًا أن تكون قصةً مشوّقة، ولا أن تكون أسطورية، ولا أن تكون خيالية، بل يكفي أن تستحق أن تروى فحسب.. يكفي أن تحفر في قلب صاحبها عميقًا لتحمل خاصّيّة الانتماء إلى الروح .

هنالك أناسٌ يعيشون حكاياتهم الخاصة بذاكرةٍ مهترئة، وقلوبٍ مثقوبة تتسرب منها التفاصيل الرائعة، التفاصيل الصغيرة التي تعني كل شيء، في هذه الحياة نحن لسنا سوى مجموعةٍ كبيرةٍ من التفاصيل المتناهية الصغر، البعض منها لا يكاد يُرى،

نلملم اللحظات الشاردة منها والمواقف البسيطة، والأحداث المهملة ونجمعها لتشكل فسيفساء ذاكرتنا وقصة حياتنا،

بالنسبة إلي، قصة حياتي هي تفاصيل كثيرةٌ جدًا، كان البدر ( نورة .. أم ابراهيم ) لا يغيب فيها، بل كان بدرًا تامًا على الدوام، كنت في قصة حياتي أعيش على انبعاثات ضوئه الشفيف، ينير دروبي ويؤنس وحشتي، ويرافقني كيفما ولّيت شطر دروبي...

عشت تفاصيلي الصغيرة من دون أن ألحظ ولو لمرةٍ واحدةٍ أن البدر المشرق هذا كان يحترق من أجلي، يعيش على فكرة إنارتي، يضيء لي الدروب والمعابر في أكثر الليالي ظلمةً ووحدةً ووحشة،

عشت حياتي الصغيرة، بتفاصيل كثيرةٍ جدًا، زاحمتني الدنيا عليها، كنت أدور الأرض والدنيا طولًا وعرضًا بنزقٍ وطيش، وكان العمل أو ما توهّمت أنه عمل يسرق جل يومي، بل كانت أيامي كلها أوهامًا أو عملًا، جمعت فيها تفاصيل لا تعدّ ولا تحصى، وكلها تدور في فلك الآمال والطموحات الكبيرة والأحلام الكاذبة.

في الوقت الذي خسرتُ فيه تفاصيل زوجتي، أسرتي، أهلي، أبنائي وسرقتني كل تلك التفاصيل ونتائجها عنهم وعن الإستمتاع بمراحل طفولتهم ونشأتهم .

ولكنني كنت مطمئنًا عليهم، أولًا لأنهم تحت عناية الله ورعايته، وثانيًا لأني زوجتي (نورة .. أم ابراهيم ) كانت تهتمّ بكل شيءٍ تقريبًا.

كانت الأب والأم، لم تبخل على بيتنا بجهدٍ ولا وقتٍ ولا مشورة ولا تدبير بل حتى في أحلك الظروف وسواد بعض الأيام ظلّ بالها مشغولًا بنا حتى وهي في غرف العمليات بأمريكا وألمانيا والسعودية .

وبينما كنت أنا منهمكًا في تفاصيل لا تشبهنا، ولا تشبه بيتنا، ولا أسرتنا، كلها تفاصيل تدور حول الأعمال والتجارة، وغيرها، كانت هي تبني تفاصيل ساحرة، تفاصيل بحجم حياتنا كاملةً، ضحكات أبنائنا، محاولاتهم الأولى في السير، عثراتهم، الكلمات الأولى التي حاولوا النطق بها، طفولتهم البريئة ..

طفولتهم البريئة، بكاءهم وهواجسهم، أحلامهم وشغفهم، أولى مراحلهم في الدراسة، اليوم الأول في المدرسة، أفراحهم، شقاوتهم، همومهم كلها.. وما لا تُحصيه الذاكرة من مشهديّات تُحفر في القلب قبل البال.. تفاصيل جمعتها على مر السنين، ووثّقتها بكل دقة صوتًا وصورة وشعورًا ومشاعر .

وحدي كنت مغرّبًا بروحي وجسدي، محاطًا بتفاصيل لا تشبهني، رماني نحوها القدر الذي كان يربت على كتفي من حين لآخر ليذكّرني بأنّ آمالي ستتحقق في يومٍ ما.

كانت تدعو الله بإلحاح بصلاحي وصلاح حالي ومابعد ذلك تفاصيل لاتهمها.

كانت تثق بالله وتطمئن إليه وكأنها تخاطبه بأن الخير قادم ..

بقيت متعطّشًا إلى تفاصيل البيت، ظمئًا إلى حكاياتهم نهمًا لمعرفة سكناتهم وحركاتهم...

حين أرى زوجتي وشطر روحي، وكياني، وكتفي التي اتكأت عليها على مر السنين، أعلم حقًا معنى أن تكون لك زوجةٌ صالحة تعينك على صروف الحياة، وتزيل عنك عثرات الدروب.

لقد كانت تضيئني بالفعل!

ليس في بيتي فحسب، بل من الداخل أيضًا.

كنت مشرقًا بها.. وما زلت!

علمتني أم إبراهيم ما لم تعلمني إياه الحياة، علمتني أن صفات التضحية والبطولة والإيثار يتعاظم شأنها حين تكون في سبيل إعمار البيوت، ما علّمتنيه الحياة لا يساوي شيئًا مما تعلمتهُ من أم إبراهيم،

فالحياة علمتني أنها عبارة عن فرص إن لم أغتنمها ستفوتني، وزوجتي علمتني أن أعظم الفرص هي الاستثمار في الأسرة وفي الأبناء وفي المسافات الصغيرة التي تفصلنا عن بعضنا البعض.

والحياة علمتني أن الاجتهاد والشغل في ريعان الشباب وميعته يهيئ للإنسان مساحةً أكبر ليكون فيما بعد بين الأسرة والأبناء، أما أم إبراهيم فعلمتني أن القرب من الأبناء والأسرة في مَيْعَة الشباب وصنع ذاكرة مشتركة معهم هو أعظم اجتهادٍ يقدمه الإنسان لنفسه ولأسرته.

علمتني الحياة أن عمل اليوم لا يؤجل إلى الغد، وعلمتني أم إبراهيم أن الأسرة أولًا ثم بعدها ما شئت من الأعمال ..

قطعت النصف الأول من حياتي مأخوذًا بهذه الحياة ومشاغلها، سرقتني تفاصيلها من بيتي وأبنائي، استهلكتني وأنهكتني، كنت مثقلًا بها، وأثقلت على من حولي بنزقي وطيشي وجنوني وجرأتي.

ومرت الأيام والسنون وكبر الأبناء واشتدت أعوادهم واليوم حين أراهم بكامل أدبهم، وأخلاقهم، وحسن تعاملهم مع الناس، دينًا، وخلقًا، وتواضعًا، وعلمًا، أدرك حقًا كم بذلت زوجتي وأم أبنائي وعمادي في سبيل ذلك، أدرك كم هي الليالي التي سهرتها من أجلهم، كم تعبت واجتهدت وأعطت وضحت.

أعلم يقينًا أن الفضل، جُل الفضل لما هم عليه وفيه الآن يعود لله أولًا ثم إليها وحدها فقط دون غيرها .

للهِ درّها ... يالها من امرأةٍ عظيمة ......

لا يسعني مداد الحبر ولا الأفكار أن أكتب عن هذه التفاصيل الصغيرة، وأنّى لي أن أعبر عن امرأةٍ بهذه العظمة والفضل؟!

كانت ولازالت في كل حالاتها في عتبها أو غضبها أو رضاها أو ابتعادها في حالٍ واحدة من الهدوء والسكينة والحكمة ولا أظنّ غيرها كانت ستتحمل نزقي وطيشي وجنوني وخاصةً أننا تزوجنا صغارًا لم نبلغ العشرين من العمر

لا يسعني في هذه المساحة الصغيرة سوى القول إن زوجتي الغالية هي من صنعت كل هذا ...

( نورة .. أم ابراهيم ) القمر المضيء

امرأةٌ كاملة في دينها وخُلقها وأخلاقها وتعاملها وردود أفعالها وبفضل الله ثم كل هذه التفاصيل الصغيرة استطاعت أن تبني لبنةً لبنة حياتنا، عجنتها زوجتي بيديها الرائعتين كما لو أنها عجنت لنا رغيف الحياة، لتصنع لمشوارنا ذاكرةً أكبر من الحياة نفسها!

أسأل الله العليّ القدير أن يمنحني القدرة على مجاراتك في الفضل وأن يرزقكِ رضاه ورضا والديك والبر بهم والإحسان إليهم والشكر لهم أحياءً وأمواتًا وأن يهبكِ الصّحة والعافية وصلاح نيّتك وذريتك ....

اللهم آمين ..