يمكن اعتبار انتفاضة سنة واحد وتسعين الخيط الفاصل لما قبلها ولما بعدها، واحتسابها الحد القائم بين مرحلة اتسمت ببعض الاخلاقيات الحميدة، ومرحلة اتسمت بفقدان الخواص الجيدة والانتماء والهوية الوطنية، ويبدو ان كرد العراق قد وفعوا في وهم كبير بخصوص انجرارهم تحت قيادة حسبت انها وطنية بينما أثبتت بالحقيقة انها غير ذلك، وهي خاضعة لحسابات اقليمية عملت ضد كرد العراق، وهو الوحيد في منطقة الشرق الاوسط تركيا وايران والعراق وسوريا، الذي يتمتع بحقوق وطنية وقومية دستورية.
والمشكلة في تقيم وتحليل الاوضاع باقليم كردستان، انه يحظى باعجاب محلي وعراقي واقليمي ودولي عند مقارنته بعراق ما بعد الفين وثلاثة، لتمتعه بالعمران والبناء والاستقرار، وهذا من جانب ولكن المؤسف في الجانب الاخر انه يحمل مشاكل وازمات في ظل سلطة متسمة بالقمع والاستبداد، ولا ينكر ان العمران الذي حصل كان نتيجة لاموال الموازنات السنوية التي اتت من بغداد والتي وصلت الى اكثر من مئة مليار دولار، ومن تخصيصات المنح الدولية، ومن لجوء الاموال العراقية الى الاقليم نتيجة للحرب الطائفية، وكذلك يعتقد انه نتيجة لعمليات غسيل الاموال الجارية منذ سنوات باتفاقات اقليمية عبر دهاليز مخفية، بينما الاستقرار هو وليد تمتع المواطن الكردي بالوعي والحس الامني الايجابي والشعور بالمسؤولية.
والحقيقة المرة ان اهل العلم والاختصاص بالسياسة والاقتصاد والعلوم يدركون جيدا ان البناء والازدهار الحاصل بالاقليم من الناحية البنيوية والتنموية، هو خال من اسس التنمية البشرية، وهو مجرد من مقومات العمل والانتاج، وهو فارغ من مرتكزات البناء الاجتماعي المبني على العدل والمساواة، وهو خال من مكونات الهوية الوطنية والبنية العلمية والتنموية، وهو مستفرغ من عوامل الاستدامة والبنية التحتية المستقبلية، وهذا كله بفعل قيام نظام حزبي عائلي قبلي فرض على كرد العراق من قبل البرزاني والطالباني وحزبيهما، الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، وذلك طوال ثلاثة عقود من الزمن منذ الانتفاضة.
وبفعل هذا الواقع المرير لاقليم كردستان والذي يشهده من سنوات عديدة، فانه بدأ يعاني من تحديات خطيرة نتيجة غياب العقلانية والفكر الرشيد والنهج الحكيم من عقول حكام الاقليم، وهذا ما تولدت عنه مشاكل وازمات كانت لها مخاطر واثار مأساوية على حاضر ومستقبل كرد العراق، ومن جملة المخاطر نتطرق الى اخطر عشر تحديات تواجه الاقليم بعين التحليل وقراءة الاحداث والوقائع، وهي ما يلي:
(1) ازالة ارض الاقليم
لا يمكن اعتبار اي وجود على مستوى كيان دولة او مملكة او اماارة او مقاطعة كيانا اذا لم يكن مكونا من الشعب والارض، فالارض بوجود الشعب كيان، والشعب بوجود الارض كيان، والارض ملكية وطنية عامة للشعب وضمان للاجيال اللاحقة، وملكية وطنية سيادية لكيان الدولة ولا يمكن لها ان تتصرف بها كما تشاء، ولكن في الاقليم لم يبقى للارض اي اعتبار وطني سيادي فتحول الى سلعة تجارية تمت سرقتها ونهبها بشمس النهار من قبل الحزبين الحاكمين، ولم يبقى اي يقعة او حصة او ذمة سيادية للاجيال الحاضرة والقادمة، فالمستقبل للشعب الكردي بلا ارض ولاجبال ولاسهول، وهنا تكمن الخطورة المصيرية على واقع وجود الكرد في العراق في الحاضر والمستقبل.
(2) استنزاف الموارد الطبيعية والمالية والاستيلاء على الممتلكات العامة:
الموارد الطبيعية ملك للشعب حسب نص مادة من الدستور الفيدرالي للعراق، والموارد المالية مضمون للدولة حسب اصول حسابية منظمة شفافة مشرعة بالقانون، وتوزيع الموارد المادية المتأتية من الثروات الطبيعية ومصادر الايرادات العامة مسخرة لخدمة الشعب من خلال الرواتب والخدمات والبلديات والاحتياجات الحياتية العامة للمواطنين، ويجب ان يكون التوزيع متسما بالعدل والتساوي والشفافية لكي يضمن للشعب ادارة صالحة متسمة بالمهنية والكفاءة والمسؤولية، ولكن ما يحصل في اقليم كردستان فان نظام الحكم لا يتسم باي ضوابط قانونية او دستورية او شرعية مدنية، وبعيدة كل البعد عن الحكم الصالح للشعب، فايرادات الثروات الطبيعية منهوبة والايرادات االمالية العاامة الاخرى مسروقة، وحتى رواتب الموارد البشرية الحكومية المدنية والعسكرية تعرضت من سنوات عديدة الى القرصنة وذلك من قبل السلطة الحاكمة واستقطعت نسب كبيرة منها بلا نص قانوني او دستوري وبلا اي حجة اخلاقية، واضافة الى كل هذه السلوكيات البعيدة عن الادارة الصالحة للحكم فان السلطة الحاكمة قد وضعت الشعب الكردي تحت طائلة ديون كبيرة بالعملة الصعبة دون اعلان تفاصيلها وحقيقتها، والالم الجارح بعد عرض هذه الحقائق المرة جدا، فان المخاطر الانية والمستقبلية لا تكمن فقط في هذه السلوكيات اللاشرعية الخارجة عن القانون للحكم القائم، بل تكمن في عدم توفير اي احتياط نقدي للشعب لحاضره ولمستقبله، وكأن كرد العراق يعيشون في فضاء لا يتحكم به مخاطر الحياة ولا يتعرض للمخاطر المستقبلية، وكأنه شعب لا حول ولا قوة له، يعيش بلا ماصي ولا مستقبل، وهنا تكمن الخطورة المصيرية على واقع وجود الكرد في العراق في الحاضر والمستقبل. واليوم بدأ الحزبان الحاكمان بعرض ممتلكات اساسية واستراتيجية عامة مثل ابنية المدارس والدوائر الرسمية والسايلوات والحدائق العامة وعيرها للبيع باسم الحجة اللعينة الاستثمار الى افراد العائلتين الحاكمتين والى الشركات الحزبية باساليب القرصنة والفرهدة وكأن الشعب لا وجود له من ناحية الممتلكات العامة التي تقدر اثمانها بمئات الملايين والمليارات من الدولار.
(3) القضاء على بنية نظام العمل
المؤلم ان الواقع الاقتصادي للاقليم يعاني من مشكلة جوهرية اساسية، وهي فقدان نظام العمل رغم وجود قوانين عراقية بهذا الشأن توفر نظاما قانونيا للعمل وتوفر ايضا حقوقا للعاملين، ولكن النظام السياسي لحكم الحزبين الحاكمين دمر الاطر القانونية ومزق الاخلاقيات المرتبطة بالعمل وانظمته التنظيمية، وبات شكل العمل الجاري بالاقليم خاليا من البنية الاخلاقية والحقوق الدستورية، لا تنظيم للعمل ولا انتاج للجهد، وحتى عمل الموارد البشرية الحكومية بات خاليا من الانتاج وجلب الايرادات، وذلك لانها تحولت الى ادوات حزبية لا مسعى لها سوى الحفاظ على تأييد الحزب الحاكم والعمل على بقائه بعرش الحكم.
(4) هدم الانتاج الزراعي والصناعي
كان الاقليم يتمتع بموارد زراعية وصناعية قبل انتفاضة سنة واحد وتسعين، ويقيت الزراعة على حالها حتى سنة سقوط النظام البائد الفين وثلاثة، ولكن بعدها تلاشت الموارد الزراعية الانتاجية من المحاصيل والمنتوجات الغذائية ومن الثروة الحيوانية، وبات النظام الاقتصادي خاليا من موارد انتاجية لتغذية الاسواق المحلية، حيث وصل حجم الاستيرادات الغذائية والزراعية والحيوانية من الدول المجاورة الى عشرات المليارات من الدولارات، وهي تخرج من جيوب مواطني الاقليم هدرا واستنزافا كل سنة.
(5) اماتة الانتماء الوطني
بسبب خلو الحزبين الحاكمين من النهج الصالح والفكر الصائب والعقيدة الوطنية، واعتمادهما فقط على السمات اللاحميدة مثل سحق الديمقراطية وسحق حقوق الانسان، ونهب الموارد والثروات والممتلكات العامة، واخضاع دوائر السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية الى سيطرة العائلتين والحزبين الحاكمين، لم يبقى اي انتماء وطني للاغلبية العامة من المواطنين، وبدأت القيم الانسانية والاخلاقية بالتلاشي، وذلك بسبب تفشى الفساد بصورة شاملة في كل مفاصل الحكومة والحزبين واغلب مكونات المجتمع.
(6) نظام الحكم واخطائه الاستراتيجية وسيطرة العائلات الحاكمة
تحول نظام الحكم السياسي للاقليم الى حكم وراثي بفعل الممارسات القمعية وتزوير نتائج الانتخابات، بات امرا خطيرا لحاضر ومستقبل الكرد، حيث سيطرت عائلة مسعود البرزاني على مفاصل ومقاليد الحكم في الاقليم وفي منطقة نفوذ الحزب البرزاني، وسيطرت عائلة الطالباني على جميع مفاصل ومقاليد الحكم والادارة في السليمانية منطقة نفوذ حزب الطالباني، وبذلك تلاشى مبدأ انتقال سلطة الشعب بالديمقراطية، وحل محله وراثة حاكمة تملك كل مقومات القوة والمال والنفوذ والسلطة، والدول المتحالفة للاقليم لا يعقل انها لا تحس بالندم لحصول هذا الواقع للحكم العائلي لانها ارادت ان يكون الاقليم واحة للديمقراطية ونموذجا راقيا لحقوق الانسان في المنطقة، وضمن هذا السياق فان المشكلة الخطيرة لكرد العراق هي ان النظام الحاكم يرتكب اخطاء استراتيجية كبيرة ولا يحاسب نفسه على ااثارها المدمرة، ومنها على سبيل المثال عملية الاستفتاء التي ارجعت القضية الكردية في االعراق الى المربع الاول، ومن خلالها فقد الاقليم واحد وخمسين بالمئة من راضيه، ولم يجرء اي سياسي كردي علىى لوم مسعود برزاني، وبالعكس فان الاخير مازال يلعب دوره القيادي والمرحعي وخاصة على مستوى العراق، والمشكلة الاكثر ألما ان الاحزاب الكردية كلها جرت وراء البرزاني وهم في حقيقة الامر كانوا يسيرون وراء سراب رسم بفبركة وبهرجة ذكية، ولم يسأل احد نفسه في تلك الفترة عن ماهية وضمانات مشروع الاستفتاء، والكل صاروا عميانا وراء وهم مجلجل لم يدركوا انهم يقعون في دهاليز نفق مظلم لحاضر ومستقبل الاقليم.
(7) الثراء الفاحش للاغنياء والمسؤولين
الفساد المتفشي في جميع مفاصل الحكومة والاحزاب الحاكمة تحول الى امر واقع لا قدرة لاي قانون او نظام اصلاحي القضاء عليه، وذلك لان الفساد بات سياسة عامة ممنهجة للعائلتين والحزبين الحاكمين تسير عليه منذ سيطرة البرزاني والطالباني على مقاليد حكم الاقليم بعد واحد وتسعين، وبفعل هذا الفساد الرهيب الذي نحول الى مسار عام حكومي وحزبي واهلي، برزت طبقات من العائلات الحاكمة والمسؤولين والتجار والمقاولين الفاحشين وهي تملك العشرات والمئات من الملايين والمليارات من الدولارات، وبفعل هذه الكتل العملاقة من المال العام المننهوب صار الاقليم امارة خاصة بالاثرياء الفاحشين وليس واحة للديمقراطية.
(8) فشل نظام التربية والتعليم
نظام التربية والتعليم العالي كان حكوميا بالسابق، ولكن في لمحة بصر لم تستغرق سوى سنوات قليلة جدا بعد سنة الفين وثلاثة تحول الى نظام اهلي وشبه حكومي غير منتج لا للعم ولا للتربية، حيث تحول النظام الى تجارة عامة للسلع ومنبع لمكاسب مادية راسمالية متوحشة، لا هدف منه لا تنمية بشرية علمية ولا تربوية، وبات الوضع يتسم بطابع الخراب والدمار المعنوي والنفسي للتلاميذ والطلاب الذين يقدر عددهم باكثر من مليون ونصف المليون، والمشكلة ان النظام يسير نحو الاسوء يوما بعد يوم وخاصة بعد انتشار جائحة كورونا التي باتت لعبة بايدي الحكام.
(9) النهج الوراثي العائلي للعملية السياسية
الاهداف السياسية لاقامة اقليم كردستان من قبل دول التحالف وعلى راسها الولايات المتحدة، كانت تتركز على توفير حماية دولية لكرد العراق ومساعدتهم في اقامة نظام فيدرالي للحكم يتسم بالديمقراطية ويتمتع بكامل الرعاية للحقوق الانسانية، ولكن بعد سيطرة البرزاني والطالباني وعائلتيهما وحزبيهما على مقاليد الحكم طوال ثلاثين سنة، فقد الاقليم بريقه الديمقراطي وتحول الى امارة متسمة بالقمع لحقوق الانسان وحرية الراي والتعبير الحر، واسود سجل نظام الحكمم محليا واقليميا ودوليا في تعامله مع الصحفيين والناشطين الحقوقيين والاعلاميين، وسجناء بادينان دليل على ذلك، وتحولت امارة الاقليم الى امبراطوريتين برزانية وطالبانية، حيث لا وجود فيها للواحة الديمقراطية ولا احترام لحقوق الانسان، وذلك في ظل نظام رجعي لا مسعى له سوى البقاء على السلطة وعلى عرش الحكم الوراثي.
(10) الهوس بالاستيراد والانتاج الاجنبي
بالرغم من مرور ثلاثين سنة على حكم الحزبين الحاكمين فلا نجد خطط اقتصادية لتأمين مقومات الانتاج المحلي، فبعد ان كان الاقليم سلة غذاء للعراق في الستينيات والسبعينيات تحول الى مستورد رئيسي لجميع مكونات السلة الغذائية، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين الاقليم وايران الى اكثر من خمس مليارات، ومع تركيا وصل الى اكثر من عشر مليارات بالدولار سنويا وخاصة في السنوات الاخيرة، ولا ندري من اين تأتي هذه الاموال الضخمة التي تخرج الى جيوب الاتراك والايرانيين دون تفكير من النظام الحاكم باتباع سياسة وطنية للتقليل من هذه الكتل المالية التي تذهب الى الخارج دون تصدير اي انتاج بالمقابل، وهذا الحجم التجاري لصالح دول االجوار بالحقيقة هو استنزاف متواصل للقدرات المالية المحلية لشعب الاقليم، وان لم تفكر حكومة الحزبين الحاكمين بمعالجة لتصحيح واعادة التوازن لعملية التبادل التجاري مع دول الجوار فعلى الحكومة الاتحادية التدخل في هذا الامر الاقثصادي الهام لوقف هذا الهدر الهائل في الموارد المالية العراقية الكردية.
وأخيرا خير ما نختم به المقال هو حسبنا الله ونعم الوكيل.
والله من وراء القصد..

كاتب صحفي