لم يكن جيوفاني فالكوني قاضي التحقيق الشهير المختص في قضايا المافيا الإيطالية، ينتظر شيئا كبيرا من السلطة الإيطالية الحاكمة خلال التسعينات، لانه كان يعلم ان نفس هذه النخب مورطة حتى النخاع مع المافيا في قضايا فساد وتمويلات مشبوهة لأحزابهم. كان يقول دائما قبل اغتياله انه لا يخاف المافيا بقدر ما يخاف من الدولة بكل مكوناتها وعلى رأسها الأحزاب الحاكمة.
يعتقد فالكوني وغيره من قضاة ايطاليا الذين قضوا نَحبهم جراء حربهم ضد المافيا، انه كان يعمل ضمن إطار اجتهادات فردية ضيقة مع مجموعة من القضاة ورجال امن نزهاء أسسوا قطب مكافحة المافيا والفساد ولم يكن ذلك بناء على إرادة سياسية ورغبة صادقة تؤمن بضرورة قطع دابر المافيا ومقاومة حقيقية للفساد.
وكما كان متوقعا فقد وُجٍهت عملية "الايادي البيضاء" بسيل جارف من الانتقادات والتشويه من داخل السلطة ذاتها قبل المافيا، وعملت ماكينة السياسة الإيطالية كل ما في وسعها لإجهاض هذه العملية برمتها وقبرها قبل ان تتحول الى حركة اجتماعية واسعة تكتسح الرأي العام الإيطالي.
غًيرت عملية "الايادي البيضاء" وجه الخارطة السياسية الإيطالية الى الأبد. تحت وقع فضائح الفساد، اندثرت بعض الأحزاب التاريخية الحاكمة كالحزب المسيحي الديموقراطي او حزب الدولة كما كان يوصف وهو الحزب الذي حكم إيطاليا لأكثر من نصف قرن ومعه تًفكّكت وتجزأت أحزاب أخرى كالحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الإيطالي. ودخل من دخل السجون وانتحر وفر آخرون وتلك هي ضريبة غياب الارادة السياسية.
أدى هذا الزلزال الايطالي الى إعادة تشكّلِ الساحة السياسية وبُروز طبقة شعوبية مُتطرفة من الساسة أبرزهم سلفيو برلسكوني الذي تعامل مع الدولة الايطالية كأنه يتصرف في احدى شركاته الخاصة. اما على المستوى الاقتصادي فقد تراجعت نسبة النمو وارتفعت المديونية ودخلت ايطاليا بدفع من الاتحاد الاوروبي وضغط من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في عملية تقشف ضخمة عصفت بالجانب الاجتماعي للدولة وساهمت في اهلاك الطبقة المتوسطة...كل ذلك كان بسبب غياب الإرادة السياسية.
لا نريد اسقاط أي تجربة على التجربة التونسية لكن التشابه والتقاطع بين التجربتين السياسية والاقتصادية والمسار القانوني والدُستوري في صياغة الدستور، مع فارق الزمن، اذ عاشت إيطاليا هذه المتغيرات والاحداث خلال التسعينات وما قبلها في حين تعيش تونس على وقع هذا المخاض في الوقت الراهن، هذه التقاطعات كما قلنا تجعلنا نتوقع المصير نفسه للمشهد السياسي الحالي في حال لم تستفق النخب السياسية الحاكمة وعلى رأسها حركة النهضة الإسلامية من غفوتها.
لا بد هنا ان نقرأ جيدا مجموعة من التقارير الدولية حول الوضع التونسي والتي تجمع في مُجملها على ضرورة الالتزام بثلاث محاور أساسية مُرتبطة ارتباطا مباشرة بالإصلاحات الاقتصادية وبدعم تونس دوليا، وهي إرساء المؤسسات الدستورية وعلى رأسها المحكمة الدستورية وسيادة القانون ومحاربة الفساد.
ولم يعد خافيا على احد ان حصول تونس على الاثني عشر مليون دولار من صندوق النقد الدولي لتغطية عجز الميزانية وإنجاز الإصلاحات الاقتصادية المتعثرة منذ سنوات، سيكن بمقابل مؤلم للطبقة السياسية الحاكمة وهي ضرب الكارتيلات المتنفذة التي تعطل "استكمال" الثورة التونسية حسب تشخيص البنك الدولي.
هذا ما يُفهم أيضا من محادثة حديثة بين الرئيس التونسي قيس سعيد ونائبة الرئيس الاميركي كمالا هاريس "جددا تأكيدهما على أهمية المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون ومحاربة الفساد، كما شددت نائبة الرئيس الامريكي التزام بلادها المستمر بدعم الديمقراطية في تونس، ودعم المباحثات التي تجريها تونس مع صندوق النقد الدولي حول الاصلاحات الاقتصادية وتنفيذها في الوقت المناسب"
يشير تقرير مركز كارتر بوضوح الى فشل المسؤولين المنتخبين حديثا في معالجة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد متهما بصراحة الخلافات السياسية داخل البرلمان وبين رأسي السلطة التنفيذية بإعاقة التحول الديموقراطي، مما أدى الى جمود سياسي عرقل التقدم في إيجاد "حلول للتحديات الاجتماعية والاقتصادية المستمرة في البلاد والتي كانت السبب الجذري لإضرابات 2011."
ليس هذا فحسب فإن مخرجات التقرير السداسي للمنظمة الدولة للتقرير عن الديموقراطية الذي يتابع مدى تطبيق الدستور التونسي وتجسيده على مستوى الإطار القانوني يصنف عملية إرساء دولة القانون والقضاء الدستوري الى جانب الهيئات الدستورية، في المنطقة الحمراء أي التي لم يتم التقدم في إنجازها رغم مرور اكثر من سبع سنوات على المصادقة على دستور الجمهورية الثانية لسنة 2014.
جاءت هذه الهيئات الدستورية، بحسب شفيق صرصار في دراسة بعنوان"الهيئات الدستورية والمستقلة أي تكريس؟" كإجابة لأزمة مشروعية الدولة تجاه الأحزاب والنخب السياسية ولعدم قدرتها على الاستجابة لخصوصية بعض القطاعات كالإعلام وحقوق الانسان وتأويل الدستور وهي بذلك تمثل "شكلا جديدا من اشكال التنظيم الافقي للسلطة" يدعم الرقابة والعدالة والشفافية ويكرس مبادئ المشاركة والشفافية والمساءلة وسيادة القانون والكفاءة والفعالية.
يبقى اذا غياب الثقة في الدولة والنخب السياسية والاقتصادية وغياب الثقة بين الفاعليين السياسيين انفسهم وحتى بين مكونات السلطة التنفيذية والتشريعية، العائق الأكبر لكل اصلاح مُمكن لأنه وخلافا لما يروج ويقال فإن مشكل تونس هو مشكل سياسي بالأساس وبالتالي فإن حله لن يكون عبر تدجين الاعلام وتوظيف القضاء او بالتهجم وتقليم اظافر اتحاد العمال وتشويه المعارضين، او بخداع المؤسسات المالية الدولية عن طريق ارقام ومؤشرات مغلوطة او منقوصة، وانما يكمن الحل في إعادة الثقة في أجهزة الدولة بإرساء العدل وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
ان النتائج الدراماتيكية التي تعيشها تونس حاليا وأهمها شبحُ الإفلاس والعصيان المدني هو نتيجة حتمية لسنوات من غياب الإرادة السياسية لإصلاح حقيقي يقطع مع الماضي سياسيا واقتصاديا لكن ليس بإعادة انتاج الظلم والحيف الاجتماعي ومزيد تعميقه كما يحدث الان وكما يقول المثل الفرنسي، اذا صدقت العزيمة استحالت الهزيمة...ننتظر لنرى.