عيدكم مبارك.
‏كل عام..وطننا وقيادتنا وأنتم جميعًا وأحبابكم بخير وعافية وأعاده الله على الجميع باليمن والبركات.

‏ذكرياتنا جزء منا..نحن امتدادها، ومن تفاصيلها تشكلت أرواحنا،وما اشتد علينا حاضر إلا هرعنا إلى الماضي مسرعين حيث البراءة والدفء وخفيف الأعباء.

في ثنايا الذاكرة مشاهد باهتة الألوان، ومشاهد باللونين الأبيض والأسود، ومشاهد مشوشة.

‏من بين تلك المشاهد لقطات زاهية ناضرة في منتهى النقاء لصباحات تضج بالتكبير وتلهج بالدّعاء

‏الله أكبر

‏الله أكبر

‏الله أكبر

‏ولله الحمد

‏الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرًا، ولا إله إلا الله بكرةً وأصيلًا

تلك الصباحات صحبناها أطفالا عاماً بعد عام، وعشنا فيها نشوة الفرح، واقتبسنا منها طاقة حياة قادمة.

‏صباحات الأعياد صباحات سماوية الرونق، ولذا ظلت زاهية في ركام الذاكرة العتيق.

‏لا أعرف من بقايا الطفولة ذكرى تُجمِع الدنيا على عذوبتها كذكرى الأعياد، وكأن الله فرضها لمّا فرض الحياة،

إذ لا حياة بلا فرح، ولا فرح بلا أعياد.

‏نَكْبر عاماً بعد عام، وتَخفِتُ لمعة الأعياد كلما لمع بياض الشيب، وكأن الأعياد حق حصري للطفولة، وكأننا إذ كبرنا ضيوف شرف!يا للزمان إذ يجترئ على ذائقة الفرح، ويعبث بمقاييسها.. أين نشوة العيد في مذاق طفل تسعده قطعة حلوى..

هذه موائد الحلويات أمامنا الآن لا تمنحنا ما كانت تمنحنا إياه كسرة حلوى تناوب عليها بضعة أطفال!

‏شيء في الذاكرة ينبعث من زمان قديم، فيمنح الحاضر شيئاً من الفرح، ولولا هذا الانبعاث لما استطابت كهولتنا مذاق الحياة.

‏لا أدري ما الذي دفعني إلى هذا التهويم للغابر القديم؟!

لعلها تهويمة الفرح ممزوجة بنشوة الذكرى العتيقة في صباح يعكس ضوء صباحات قديمة حيث الثياب البيض، والقلوب البيض، والوجوه المشرقة بنور الله ورحماته.

‏ها هي المساجد والطرقات والبيوت تضج بتكبيرات العيد ابتهاجًا بتمام نعمة الله علينا، وفرحًا بالعيد.

أبدأ عيدي بابتسامة أمي ودعواتها الحانية، وببخور العود تلاحق أبي به وتلاحقنا وتتأكّد من هندامنا البسيط بأننا في أحسنِ حال،كل نظرةٍ منها وأخرى تحتضنني بدعوة، تزملني بها وتدثرني بطمأنينتها

‏هذه الابتسامة الدافئة التي طالما كانت فيما بعد مهربي وملاذي بعد الله من أوجاع الحياة وخيباتها

أُعَرِّج على أبي هذا الملاك السارح في ألطاف الله، وبنظراته الشاردة أعود بشريط ذكرياتي، حيث كان صباح العيد برفقته عيدًا آخر.. يدي في يده، بلباس العيد ونحن في القرية نسير باتجاه مصلى العيد.

‏تلك اللحظات القصيرة التي كنت فيها أملك العالم، صغيرًا يسير نحو العيد برفقة العيد.

كنت أمطر أبي بالأسئلة، أفرط في التساؤل، أفرط في الفضول، أسأل أبي عن كل شيء.. عن الأشخاص، عن الأماكن، عن القرية، عن المزارع، وكان بعد كل سؤال يجيبني بجملته المعسولة وهو يبتسم : يا خويلد اذكر الله أشغلتني 😃😃💔💔💔

كان وقع اسمي بصوت أبي على قلبي أندى من المطر، أتبلل به من الداخل، أركض في أرجاء قلبي..أشعر حينها برغبتي الشديدة بسؤالٍ جديد، كي أسمع اسمي منه مرةً أخرى، كنت صغيرًا حينها لا أدرك معنى أن أبدو مُمِلًّا بكثرة فضولي البريء، هل حقًّا كنت مُمِلًّا يا أبي؟!

‏ربما اجاباتك تجعلني اسأل أكثر

قل: لا يا خويلد، أو قل: نعم كم أنت ممل يا خويلد، لا يهم..يهمني أن أشنف سمعي بإيقاع الزمان الأثير.

‏حين أعود إلى خالد القديم أتمنى أن أصطحب من ذلك الماضي أشياء عظيمة كانت كل عيدي.. صلصلة مفاتيح أبي.. نحنحته عند الدخول..تسبيحه وتهليله.. ابتساماته الدافئة، اشتقتُ حتى لزمجرته حين غضبه

اشتقتُ لأحاديثه الشائقة عن تلك القرية التي كانت تسكن قلب أبي ويسكنها. لحبّه لكل الأقارب والمعارف وضرورة قضاء كل يوم العيد في زيارات سلامٍ للجميع الكبير والصغير …

‏ما أبهج العيد،وما أبهج الأطفال، وهم كاللؤلؤ المنثور بين المصلين،في مصلى العيد أقرأ القصص في وجوه الناس، أسبح في ملكوت الله، أتأمل رحمات الله من حولنا، هذا شيخٌ كبير يمسك بعصاه ويعتضد بابنه الشاب الفتيّ، وذاك يمسك بيد طفله الذي لم يتجاوز الأربعة أعوام، طفل ملائكي يملأ المكان بهجة،

طفل ملائكي يملأ المكان بهجة، ويزرع الفرح في وجوه المصلين، وكأنها دورة الحياة.

‏طفلٌ آخر يطوف على المصلين بجيبٍ مليءٍ بالحلوى، ويدسّ في يد كل واحدٍ منا قطعة حلوى هي أثمن ما يملكه، وكأنه وهبنا الحياة.

تتخلل هذه المشاهد تكبيرات المصلين:

‏الله أكبر

‏الله أكبر

‏الله أكبر

‏ولله الحمد

‏الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا

‏ويزداد العيد دفئًا وطمأنينةً وبهجة، وتتزمل الأرواح عباءات الفرح.

‏ما العيد إلا فرحة أحباب، وبسمة أصحاب، وذكريات طفولة لا تموت.

وكما تتزود المركبة بالوقود لتقطع رحلة طويلة نتزود بالحياة من هذه الأعياد لنقطع دروب الحياة الموحشة ومعنا زادٌ من فرح.

‏قدسوا الأعياد،واملؤوها بالحب،وامنحوا الأطفال نصيبهم من المرح

‏يا لبؤس من يعبس في وجه طفل،ويا تعاسة من يبخل عليه بما يسعده!

‏يالسوء من قلبه مليء بالخصام والكره !!

أغلقوا الصفحات الشائهة، وافتحوا الصفحاتالبيض ..تسامحوا..اغفروا.. وابتسموا في وجوه المتاعب، وقبِّلوا رؤوس الكبار،وانتشقوا روائح الحِناء،وامسحوا على رؤوس الصغار، ولطّخوا ثيابكم بأصباغ حلواهم،وأسعدوا حتى أولئك الذين تسوؤهم سعادتكم لربما تصيبهم عدوى الفرح

‏يوم في العام عن بضعة أعوام..

‏«هذا هو العيدُ فلْتَصْفُ النفوسُ بهِ

‏ وبَذْلُكَ الخيرَ فيه خيرُ ما صُنِعا

‏أيامُهُ موسمٌ للبِرِّ تَزرعُهُ

‏ وعند ربيَ يجني المرءُ ما زَرَعا

‏تَعَهَّدوا الناسَ.. فيهِ من أَضَرَّ بهِ

‏ رَيْبُ الزمانِ ومَن كانوا لكمْ تَبَعا

وبدِّدوا عن ذوي القربى شجونَهُمُ

‏ دعا الإلهُ لهذا والرسولُ دعا

‏واسُوا البرايا وكونوا في دياجِرِهمْ

‏ بدراً رآه ظلامُ الليلِ فانقَشَعا

خيرُ الكواكبِ ما أهدَى أشعتَهُ

‏ للمدلجينَ إذا جَنَّ الدجى سَطَعا

‏وبعضُها في عُلاهُ لا ضياءَ لهُ

‏ فليس يُجدِيه شيئاً أنهُ ارتَفَعا»

قفلة:

‏ما العيدُ لولا لثغةٌ من طِفلةٍ

‏ ودعاءُ والدةٍ وبسمةُ والدِ

‏الذكرياتُ تموتُ إن لم نَسْقِها

‏ بحديثِ أحبابٍ ووصلِ أماجدِ

‏ما كان هذا العيدُ إلا نفحةً

‏ من نفحِ جناتِ النعيمِ الخالدِ

‏هو رحمةٌ عُلْويةٌ قد ساقها

‏ ربي لِجَمْعِ شتاتِنا المتباعدِ