منذ ستينيّات القرن الميلاديّ العشرين بدأ الاهتمام الفكريّ بمسألة التراث يتجدَّد، ويشهد زخمًا واندفاعًا، بعد بدايات كانت عائمة، وعامّة، وربّما هشّة بعض الشيء، وكان من روّاد تلك البدايات العامّة الأفغاني ومحمّد عبده، وهي بدايات قادت ودفعت لإسهامات رموز ثقافية تالية، كطه حسين وبعض مفكِّري جيله؛ وصولاً لنضج تلك المعارف والتناولات مع الجابري، في مشروعه النقديّ (نقد العقل العربيّ) بصفة خاصّة، كما أسهم في هذه المرحلة الأخيرة من التنوير شخصيات وقامات فكرية كبيرة منها: محمد أركون وأدونيس وعبدالله العروي وعبدالإله بلقزيز وغيرهم...
تميّزت النخب السلفيّة -مبكِّرًا- باحتكار تأويل التراث، والسيطرة على الرأسمال الجماهيري، الذي يتيحه؛ لكن المختلفين مع ذلك التوجّه السلفي سرعان ما أدركوا صعوبة الحضور في المشهد الثقافيّ العربيّ، والتأثير فيه؛ دون العناية والاهتمام برأس المال التراثي، والعبور من خلاله... وهذا قاد لمعارك فكريّة، ومعرفيّة، أو كانت في ظاهرها كذلك، تتخفّى خلف منطلقات إيديولوجية، وتنطق باسم فئات اجتماعية تبتغي مصالح خاصّة، وإن تدثّرت بلباس عامّ فضفاض!
الصراع على التراث كان صراعًا على تأويله؛ فكيف جاء ذلك الصراع؟
برزت قراءات أو مقاربات ثلاث رصدها الجابريّ، وركّز عليها بلقزيز، وهي القراءات السلفيّة والليبرالية والماركسيّة، تصارعت فيما بينها، وتبادلت الأدوار، والتأثير...
القراءة السلفيّة -في نظر الجابريّ- لا تقدِّم شيئًا جديدًا عن التراث؛ لأنّها غائصة فيه، لم تستطع الانفلات منه، ولم تستطع رؤيته من الخارج، ولم تضع مسافة كافية بينها والتراث... والقراءة السلفيّة للتراث لم تنفصل عن التراث، والانفصال متطلب رئيس في كلّ رؤية موضوعيّة علميّة، وبذلك جاءت هذه القراءة السلفيّة ترافعًا ضدّ كلّ مَن يسائل التراث، ويضعه موضع فحص نقديّ.
لم تفصل القراءة السلفيّة للتراث بين التراث والموضوع الذي تدرسه، وبذلك افتقدت الموضوعيّة، واضطرب منهجها، وبان ضعفه وعوزه بسبب ذلك الخطأ المنهجي، وضاعف وفاقم ذلك الإشكال كون القراءة السلفيّة تصدر من منظور دينيّ، جعل العامل الروحيّ هو العامل الوحيد المحرِّك للتاريخ... وهذا التشدُّد في سلطة البعد الروحي يُخْرِج دراسة التراث وفهمه من حيِّز النظر النقدي، ويجعل دور الفكر السلفيّ ماثلا في حراسة التراث؛ باعتبار أفهام السلفيين للتراث حقائق غير قابلة للمساءلة!
القراءة الليبرالية للتراث لا تختلف كثيرًا عن القراءة السلفيّة في نتائجها؛ مع أنّ منطلقاتها ومناهجها كانت مختلفة؛ إذ ينظر الليبراليّ العربيّ إلى التراث العربيّ الإسلاميّ -بحسب الجابريّ- من موقع الحاضر الأوربيّ، وينتج قراءة أوربيّة النزعة، وبذلك فهذا القارئ العربيّ لا يرى في التراث العربيّ والإسلامي إلا ما يراه الأوربيّ... وبما أنّ قراءة الغربيّ الأوربيّ للتراث العربيّ والإسلاميّ كانت ومازالت محكومة بتصوّرات إيديولوجية، أو بنظرة مركزيّة أوربيّة للحضارات والثقافات فإنّ قراءة الليبراليّ العربيّ ستكون رديفة ومماثلة؛ لأنّها محكومة بالمنطلقات نفسها، وبالتصوّرات ذاتها.
القراءة الثالثة هي القراءة الماركسية للتراث، وتنحى المنحى الإيديولوجي نفسه؛ فالقارئ العربيّ يسخّر التراث لخدمة قضيّة الثورة؛ وفق حجاج يفرض على الثورة أن تعيد بناء التراث بما يساعد على إنجاز الثورة.
اليسار العربيّ كان منبهرًا بالتحليل الطبقيّ للظواهر الاجتماعية، والأفكار، وكان مشدودًا إلى فكرة الصراع بين الماديّة والمثاليّة، وقد حاول تطويع التراث العربي والإسلامي؛ ليكون انعكاسًا للصراع الطبقيّ من جهة، وميدانًا للصراع بين الماديّة والمثاليّة من جهة أخرى.
في مجمل تلك القراءات والتأويلات لم يكن التراث موضوعًا للدراسة والمعرفة والتحليل؛ بل كان موضوعًا للتوظيف والاستثمار والانتفاع... وكلّ تلك القراءات - وإن تباينت في الظاهر- تقوم على محتوى سلفيّ، يتمثّل في عودة كلّ قراءة إلى سلف تتوسّله في حضورها.