من أعظم الإنجازات التي وصلت اليها الإنسانية ، واستقرت الى حد بعيد في العصر الحالي، مبدأ الشرعية الدستورية والشرعية القانونية. ويعني ذلك ان تقوم الدولة ويستقر المجتمع على مبادئ أساسية هي الدستور وقواعد عامة هي القوانين. فإذا وقع خلاف بين أجهزة السلطة، او بين هذه الأجهزة وجماعة من المواطنين، أو بينهما وبين أحد منهم، أو بين أشخاص المجتمع -أفراد أو جماعات – تعين حل هذا الخلاف باللجوء الى السلطة القضائية لحسمه، طبقا للمبادئ الدستورية أو وفقا للقواعد القانونية حسبما تكون طبيعة النزاع، بحيث يعد الخروج على مبدأ التقاضي لحل الخلاف وحسم النزاع بالطرق المحددة في الدستور والمبينة في القوانين، اعتداء على الشرعية وخروجا على القانون وحربا للمجتمع.
ولا تعني الشرعية اتفاق جميع المواطنين على مبادئ الدستور وقواعد القانون، فذلك أمر محال، لأن الإجماع لا ينعقد أبدا على مثل هذه القواعد وتلك المبادئ، وخاصة أنها متخصصة لا يفهمها حق الفهم إلا الدارسون لها، وقد تكون متوارثة من أجيال توافقت على احترامها والركون اليها، حتى وصلت الى الجيل الحالي وصارت ملزمة له. إنما يكفي لقيام الشرعية توافق (لا اتفاق) غالبية المواطنين (والغالبية دائما صامتة) على انها تحقق لهم القدر اللازم والحد الممكن من العدالة السياسية والعدالة الاجتماعية والعدالة القضائية.
فإذا رأت جماعة، أو تبين حزب، أو تصور شخص، أن مبادئ الدستور أو قواعد القانون لا تحقق العدالة بعناصرها جميعا أو ببعض هذه العناصر، كان عليه أن يعمل في سلام ومن خلال الشرعية ذاتها على إجراء التعديل اللازم أو إحداث التبديل الضروري، بعد تهيئة الرأي العام وتوعية الأغلبية الصامتة بالقصور القائم والتعديل المطلوب والأثر الناتج عن ذلك. أما إذا جنحت الجماعة، أو عمل الحزب، أو عمد الشخص، إلى فرض الرأي بالقوة أو تحقيقه بالإرهاب أو توسل إلى إظهاره بالعنف، كان ما يفعله اعتداء على الشرعية وخروجا على القانون وحربا للمجتمع.
والشرعية بذلك لا تهدف إلى حماية نظام الحكم بقدر ما تعمل على حماية النظام الاجتماعي. فلقد ثبت تاريخيا وواقعيا أن افضل ما يحمي نظم الحكم احترامها هي للشرعية وعملها على تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية والقضائية، فإذا خرج نظام على الشرعية أو وصل إلى الحكم خلافا للشرعية، فإن الشرعية وحدها – بالمعنى السالف بيانه – كفيلة بتقويضه ولو بعد حين. إن الشرعية - في حقيقة الحال – حماية للمجتمع والنظام الاجتماعي مخافة أن ينهار أو يسقط بفعل أقلية مغامرة أو عصبة متطرفة أو جماعة مسلحة ترفع الوطن شعارا أو تتخذ الدين ستارا لتقوض من خلفه الشرعية، فتستولي على الحكم بالقوة، وتلغي المبادئ الدستورية والقواعد القانونية بالعنف، وتسكت كل معارضة لها بالإرهاب، وتجمع التأييد لها بحد السلاح، وتفتعل الموافقة عليها بالتزييف والتزوير.
وقد ظهرت في العالم الإسلامي عامة، وفي مصر خاصة، تيارات تمارس السياسة من خلال المظاهر والصيغ الدينية (أي بتسيس الدين، وهو ما يمكن أن يسمى السياسة الدينية)، وتنتهج الحزبية برفع شعارات عن الشريعة الإسلامية، وتعمل بكل وسيلة على تقويض الشرعية وتهديم النظام الاجتماعي ونقض الوحدة الوطنية بالقوة والعنف والإرهاب، محتمية في ذلك بالدين والشريعة، كأنما هما قميص عثمان ترفعه طلبا للعدالة والحق، وهي تقصد به الحكم والسلطان.
ومع أن هذه التيارات متناحرة فيما بينها، متصارعة حتى على العبارات والألفاظ، فإنه يجمعها أن كلا منها يدعي أنه وحده هو الذي يمثل الإسلام، ويتصرف كما لو كان يحتكر حق التحدث باسم الجلالة. ويصف من عداه بالكفر والضلال، ويدمغ كل خصم بالإلحاد والفسوق، ويلوح بالعنف دائما وبالقوة أبدا وبالإرهاب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ويمكن إجمال اتجاهات هذا التيار – بكل فروعه المتناحرة وفصائله المتصارعة – للعمل ضد الشرعية القانونية والدستورية والاجتماعية فيما يلي:
أولا- تقويض النظام القانوني بالقوة: فتيار تسيس الدين أو السياسة الدينية يرفع شعار تقنين الشريعة الإسلامية وتطبيق شرع الله، وهو يلوح بالقوة إذا لم يطبق ما يدعو إليه. في حين أن ما يدعو إليه ليس أمرا محددا وليس برنامجا واضحا، وانه بذلك الغموض والتهديد باستعمال القوة – والتي يسميها حربا من الله – يعمل على تقويض النظام القانوني. فالشريعة أو شرع الله قد يعني المنهج أو السبيل الى الله، وقد يعني إقامة الشعائر والفروض الدينية، وقد يعني مبادئ السلوك الفردي والاجتماعي، وقد يعني الأحكام والمبادئ التشريعية التي وردت في القرآن الكريم أو السنة النبوية فيما يتعلق بالمعاملات وأراء الفقه في ذلك.
ثانيا- قلب نظام الحكم بالعنف: يلح تيار السياسة الدينية (أو تسيس الدين) بكل فصائله – المتناحرة دوما والمتصارعة أبدا – على ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية، وهو إتهام صريح بأن الحكومات القائمة غير إسلامية، كما أنه دعوة واضحة إلى قلب نظام الحكم ولو بالعنف الذي يقتضيه الجهاد كما تزعم بعض الفصائل، أو بالعنف الذي يوجبه تغيير المنكر كما تدعي فصائل أخرى. وقد يبتعد بعض الأتباع والأشياع عن التصريح فيلجؤون إلى التلميح، حتى لا يؤخذون بالدعوة إلى قلب نظام الحكم.
ثالثا- نقض الوحدة الوطنية بالإرهاب: يدعو اتجاه السياسة الدينية (تسيس الدين) الى نقض الوحدة الوطنية بالإرهاب حين يزعم أن المجتمع جاهلي، وحين يدعي أن أعضائه هم الإسلاميون، فيهدد بالكفر كل فرد، ويلوح بالإرهاب لكل معارض، ويدمغ بالإلحاد من لا ينضوي تحت أمره. ولفظ الجاهلية كان موجودا قبل الإسلام عند جماعة المعرفيين (الغنوصيون) الذين كانوا يرون أن الخلاص لا يمكن إلا بمعرفة الله معرفة ربانية (هي بذاتها العلم اللدني عند الصوفية المسلمين) ومن لا يستطيع أن يصل إلى هذه المعرفة يكون جاهلا، والمجتمع الذي يفتقد هذه المعرفة هو مجتمع جاهلي. وفي الإسلام فإنه يعد جاهليا ذلك الذي يشرك مع الله أصناما أو معبودا آخر، او هذا الذي يتوسل إلى الله بصنم أو معبود آخر.
رابعا: هدم الولاء الوطني للوطن بالترغيب والترهيب: ليست المواطنة ترفا لا قيمة له أو حلية يمكن خلعها دون أن يرتب ذلك أثرا بعيدا. إن المواطنة - في حقيقة الحال – هي الرابطة الروحية والوجدانية العميقة التي تقيم صرح الوطن وتحمي الشرعية الدستورية والقانونية والاجتماعية. والولاء الوطني هو الذي يفضي الى سيادة القانون ويحول بين أن تكون الدولة بوليسية، ذلك أنه يؤدي لزوما إلى احترام القوانين والناس بما يقيم الشرعية ويساندها. هذا بالإضافة الى أن هذا الولاء هو الذي يدفع المواطنين طواعية واختيارا إلى تنفيذ القوانين والدفاع عن الوطن وأداء الواجبات ودفع الضرائب وحب العمل وما إلى ذلك. فإذا اضطرب الولاء الوطني اختلت الشرعية، وهو ما يحمل في ذاته دعوة إلى أن تستبدل بالقانون إجراءات الأمن، وأن تصبح السيادة للحاكم أو للحكومة لا للشعب أو المجتمع.
إن لفظ الإسلام لفظ سام جليل، غير أنه قد يكون قولة حق يراد بها باطل، وقبسا من نور يقذف به إلى ظلام، ومن ثم لزم التحديد عند استعماله حتى لا يتخذ ستارا يخفي من ورائه أغراضا شخصية أو تطلعات سلطوية أو أطماعا مذهبية، فيسيئ ذلك إلى الإسلام أيما إساءة. إن الذين يرفعون شعار الحكومة الإسلامية، جهرة أو خفية، تصريحا أو تلميحا، ويطعنون على شرعية الحكم ويدعون الى الخروج على الشرعية الاجتماعية لم يقدموا منهاجا واضحا لما يقصدون، ولا نظاما محددا لما يدعون، ولا تحديدا ظاهرا لما يبتغون، غير أنهم قد يشيرون إلى هذه الحكومة بلفظ الخلافة أو الإمامة.
المصدر: كتاب الإسلام السياسي "مختصر الفصل الرابع". المؤلف: المستشار محمد سعيد العشماوي.
التعليقات