بعد عرقلة دامت أكثر من سنة و شهرين، تشكّلَت الحكومة اللبنانية سريعًا، إثر اتصالٍ هاتفي جرى بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيس الإيراني المنتخب حديثًا ابراهيم رئيسي، وهو ما يعكس بشكل واضحٍ لا لبسَ فيه، أنّ القرار اللبناني كان ولا زال مرتهن للقوى الخارجية والتجاذبات الجيوسياسية الدوليّة؛ وَأنّ زعماء الطوائف كانوا ولا زالوا ينتظرون الضوء الأخضر الخارجي والتسويات الإقليمية، ليُعيدوا توزيع المغانم والحصص فيما بينهم، وأنه لا عبرة لمعاناة الشعب المقهور في ميزان مصالحهم وجشعهم المستشري.

فَكل المعاناة الداميّة التي ألمّت بالشعب اللبناني طيلة العامين المنصرميْن لم تكن كافية كي يُظهر "الحكّام الأكارم" الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية تجاه البشر، حيث أدّى انفجار مرفأ بيروت الى وفات أكثر من مئتي انسان، وتسبب في خرابٍ عمراني هائل؛ فيما شهدت البلاد أسوأ أزمة اقتصادية وانهيارًا دراماتيكيًّا لسعر صرف الليرة اللبنانية، وصفها البنك الدولي بأنها غير مسبوقة منذ منتصف القرن التاسع عشر. إضافة الى الانقطاع التّام والشامل للتيار الكهربائي، وفقدان المحروقات واختفاء الأدوية وتفاقم أزمة القمامة، علاوة على موجة الهجرة الكبيرة التي صاحبت كل ذلك الفقر، وسط نزوح جماعي للأطباء والمهندسين والمعلمين والاستشاريين، وغيرهم من الكفاءات التي ينبغي أن يُعوّل عليها لإعادة الإعمار، بعد ان تحللت مؤسسات الدولة وبات لبنان في الدرك الأسفل من سلم الانهيار، مع انعدام كافة الخدمات وسبل العيش الآدمي.

المشهد برمته محزن وموجع للغاية، وعلى الرغم من التوقعات الإيجابية في ان ولادة الحكومة من شأنها أن تنزع فتيل الانفجار إلا ان كلّ المعطيات تشير إلى أن الكارثة متواصلة ومستمرة. وفي هذا السياق لا بدّ من تسجيل نقاط عدة أهمها :

أولا: لبنان ليس سيد نفسه: أن الطبقة السياسية برمّتها مرتهنة للقرارات الخارجية والتوازنات الإقليمية، وما كانت تلك الحكومة لتبصر النور لولا التفاهم الفرنسي الايراني، وفور موافقة ايران وافق حزب الله وحلفاؤه.

ثانيًا: لبنان كان ولا زال يخضع بالكامل للميليشيات الطائفية وأمراء الحروب، الذين سرقوا ثروات المواطنين اللبنانيين ونهبوا خيرات البلد، ومارسوا الفساد دون محاسبة او أدنى حسٍّ بالمسؤولية لعقود طويلة، إذ لا شيء يشير الى ان البلد سيفلت من المجموعات الطائفية والمحاصصة المذهبية.

ثالثًا: حكومات المحاصصة المذهبية: على الرغم من الإعلان أنّ الحكومة الجديدة هي من التكنوقراط المتخصصين في مجالاتهم، إلا أنّهم اختيروا وفق اعتبارات سياسية بحتة، رشحهم أصحاب النفوذ لدى طوائف الشيعة والسنة والمسيحيين والدروز علاوة على الأجنحة المنقسمة داخل المذهب الواحد.

رابعًا: إعادة انتاج المنطومة الفاسدة: وعل سبيل المثال لا الحصر فإن الرئيس نجيب ميقاتي يُعد أغنى رجل في لبنان كما تشير قوائم الأثرياء في العالم العربي، وهو ابن مدينة طرابلس المنطقة الأشد فقرًا وحرمانًا وقمعًا، وعلى الرغم من ثرائه فإنه لم يُقدم للبنانيين او حتى لأبناء منطقته حلولا او دعمًا أو مشاريعًا ممكن ان تُحسّن حياة البشر طيلة السنوات الماضية، بل كان جزءًا لا يتجزأ من منظومة "النهب" المتحكمة في البلاد لعقود وهو الذي شغل منصب رئاسة الوزراء مرتين في السابق.

خامسًا: لا تحسن بالاقتصاد دون هيكلة الدين العام: تم الاعلان عن تفعيل المحادثات مع صندوق النقد الدولي، ولكن من غير المتوقع ان تقوم هذه الحكومة الوليدة بإعادة هيكلة الدين العام، الذي يقدر بنحو ضعف حجم الاقتصاد، لأن ذلك سيعني إعادة هيكلة النظام المصرفي ومراجعة خسائر المصرف المركزي، التي قدرتها الحكومة الأخيرة بنحو 50 مليار دولار، فيما يعيش حوالي 80% من اللبنانيين تحت خط الفقر مقابل أقل من 30% عام 2019 بحسب الأمم المتحدة، كما تراجع الناتج المحلي الإجمالي خلال العامين الماضيَين وانخفض بنسبة تراكمية تجاوزت 45%. وبحسب مرصد الأزمات في الجامعة الأمريكية ببيروت، فقد ارتفعت تكلفة الغذاء بنسبة 700%.

سَادسًا: الانتخابات النيابية والتجديد للفساد: على الرغم من تأكيد ميقاتي، أنّ الانتخابات النيابية التشريعية المزمع إجراؤها في مايو/أيار 2022 ستقام في موعدها، إلا ان التجارب المتعاقبة أثبتت بما لا يَدعُ مجالا للشك، في ان كل الاحزاب الطائفية دون استثناء، تعمل على إعادة انتاج نفسها بالانتخابات في طواطؤ عجيب لإعادة انتاج المحاصصة والفساد من جديد، وبالتالي فَهُم لا يوفرون جهدًا لعرقلة أي بصيص أملٍ يمنح الشعب فرصة نسف كل الطبقة الحاكمة من خلال صناديق الإقتراع، وهي الزمرة التي لم تتغيير منذ الحرب الأهلية بل ومنذ قيامة لبنان. وانّ ما يَعدُون به حاليًا ليس إلا فرصة للالتقاط الأنفاس والضغط على الناس وابتزازهم من خلال البطاقة التمويلية، ومن خلال الشحن المذهبي والطائفي لإبقاء القواعد الشعبية المسحوقة تحت سطوة زعمائهم. لذلك فليس مستغربًا ان يعملوا على تأجيل الانتخابات في اللحظة الأخيرة إن هم أحسوا ان الانتخابات ستطيح بهم.

سابِعًا: تحجيم الدور الفاعل للإغتراب اللبناني: يُقدر عدد اللبنانيين في دول الاغتراب بـ 11 مليون مغترب فيما يعيش قرابة 4 مليون على الأراضي اللبنانية، وعلى الرغم من أن عدد هائل من هؤلاء المغتربين يشكلون كفاءات وخبرات وعقول فاعلة في بلاد المهجر وبإمكانهم ان يحدثوا تغييرا حقيقيا وجذريا فاعلا ويساهموا بإعادة اعمار البلاد، إلا انهم مُستبعدون تمامًا عن المشهد السياسي؛ وببساطة لأنّ معظهم غير طائفيين ولا محازبين وهم الذين مارسوا الديموقراطية في دولٍ مدنيّة متحضرة، وهم يتطلعون لأن يروا لبنان دولة علمانية مدنية ديموقراطية. لذلك فإن حديث زعماء الطوائف حول المغتربين ينصبّ حول طلب المساعدة والتحويلات المالية المباشرة فقط. وعلى الرغم من ان دولة صغيرة كلبنان لديها عدد كبير من القنصليات والسفارات حول العالم مع عدد هائل من الطواقم العاملة برواتب خيالية وايجارات باهظة للمباني (بحجة خدمة المغترب وربطه بوطنه الأم) إلا ان كل المؤشرات تستبعد المغترب عن اي مشاركة فاعلة في القرار اللبناني، وخوفًا من يؤدي الصوت الاغترابي الى نسف الطبقة الحاكمة فقد عمدوا الى إلغاء وتحجيم صوته وحقّه في المشاركة في الانتخابات النيابية وذلك بناءً على قانون الانتخابات لعام 2017 الذي خصص 6 مقاعد فقط لتمثيل ملايين المغتربين في العالم من أصل 128 نائباً في البرلمان.

أخيرًا، يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين ان تشكيل هذه الحكومة لا يعدو سوى تفصيل بسيط في لعبة الأمم المتنافسة فإثر الانسحاب الأميركي الدراماتيكي من أفغانستان، والتراجع التدريجي لدورها في الشرق الأوسط بما في ذلك العراق وسوريا ولبنان، فإن المؤشرات تتجه إلى تغيير واضح في مواقف الدول الإقليمية لجهة البحث عن خفض التصعيد والوصول الى تسويات يبقى الخاسر فيها الانسان المقهور.

لذا فإن وَاقع التغيير الفعلي على أرض الواقع لأي شعب على وجه الأرض لا يكون إلا بإرادة الشعب المقهور نفسه حتى لو تواطئت امم الأرض أجمعين، فلو أراد الشعب اللبناني الكرامة كان للكرامة إرادة فيه. ولعل أولى الخطوات تكون بالتوقف عن تملق الزعماء كلّ زعماء لبنان مجتمعين وتفعيل دور المغتربين من النخب الفكرية والعلمية التي دفعت ثمن القهر مرتين مرة في إجبارها على مغادرة لبنان ومرة في حرمانها من حق الانتخاب.