ماذا سيحدث بعد الانتخابات في العراق؟ وهل بوسع الصدر تجاهل منافسيه في البيت الشيعي المنضوين تحت خيمة الإطار التنسيقي ويشكل حكومة صدرية يشاركه فيها جزء من الأكراد وجزء من السن’، ويرمي بالآخرين في حلبة المعارضة مرغمين؟ أم سيقدم بعض التنازلات من أجل تسوية ترضي الجميع وتشرك الآخرين "الخاسرين" في حكومة المحاصصة القادمة؟ وهل سيقبل الولائيون بلعب دور ثانوي في التشكيلة الحكومية القادمة ويفقدون جزء من امتيازاتهم السلطوية والمالية رغم امتلاكهم للميليشيات المدججة بالسلاح وبالدعم الإيراني الكبير؟ وكيف ستحسم معضلة الكتلة البرلمانية الأكبر التي يحق لها دستورياً تشكيل الحكومة وتسمية الرؤساء الثلاثة "رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء". هل الفائز في الانتخابات وصاحب العدد الأكبر من المقاعد هو الكتلة المؤهلة لتشكيل الحكومة أم يتعين انتظار انعقاد الجلسة الأولى وإفراز الكتلة الأكثر عدداً من خلال التحالفات تحت قبة البرلمان للبت بمسألة رئاسة الحكومة والبرلمان والجمهورية؟ يبدو أن المسار سيكون صعباً للغاية ومعقداً ويتسم بالخطورة. هل سيبقى الدور الإيراني حاسماً كما كان عليه الحال في الدورات الاننتخابية السابقة، خاصة بعد مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس؟ وماهو دور المرجعية الشيعية العليا في حسم هذه المعضلة؟ وأخيراً هل سيكون للمستقلين الفائزين بنحو 20 مقعداً دور واضح ومؤثر في لعبة التحالفات البرلمانية هذه؟
أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة الأخيرة في العراق إلى ظهور مشهد سياسي جديد، حيث فاز الصدريون بنتائج الاقتراع. حققت كتلة مقتدى الصدر نوعاً من الانتصار الانتخابي، حيث فازت بـ 73 مقعداً من أصل 329 مقعداً برلمانياً، أو 22٪ من إجمالي المقاعد النيابية وحوالي 35٪ أكثر مما كانت عليه في انتخابات 2018.
إن وجود "الصدريين" على رأس القوائم المتنافسة لا يثير الدهشة لمراقبي الشأن العراقي، ولا يقتصر على قوة هذا التيار الشيعي وتاريخه الانتخابي منذ عام 2003.
ولكن أيضًا بالنظر إلى تفاعلات المشهد السياسي الداخلي على مدار العامين الماضيين، لا سيما من خلال التظاهرات الكبرى التي شهدتها البلاد في أكتوبر 2019.
ينتقد البعض مقتدى الصدر زعيم الحركة ويتهمه بالشعبوية في العراق لمناوراته السياسية التي لا تسمح لأحد بمعرفة مواقفه وسلوكه السياسي بشكل مسبق في أي قضية أو حدث.
ولكن يبدو واضحاً اليوم أكثر مما كان عليه الوضع بالأمس، من خلال تحليل خطابه الأول بعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات، أن مقتدى الصدر يريد الدفاع عن سيادة العراق والحد من التدخل الأجنبي في شؤون البلاد الداخلية، ومحاربة الفساد وتجريد الحشد والميليشيات الولائية، وربما ميليشياته سرايا السلام ايضاً، من السلاح وحصره بيد الدولة. هذه كلها اتجاهات تتزامن مع مطالب ونداءات المتظاهرين خلال احتجاجات 2019.
كانت الرسالة الأهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق هي الرفض الواضح للتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للبلاد. والتي ترجمت بالإنخفاض الواضح في إقبال الناخبين ممن يصوتون لصالح الموالين لإيران وعلى نحو ملموس فقد انخفض عددهم بشكل كبير.
الحديث عن "أخطاء" أو "مخالفات" في عملية الفرز لا يغير من قوة الرسالة من الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة. وهذا على النقيض من رسالة أخرى دفع بها الناخب العراقي لتشكيل خريطة سياسية جديدة في مجلس النواب العراقي.
انخفضت نسب أصوات بعض السياسيين المعروفين بين العراقيين الأكراد والعرب على حد سواء. وللانتخابات النيابية الخامسة، منذ 2005، مكانة خاصة لأنها جاءت بعد احتجاجات 2019 التي أعادت تشكيل الوعي الجماعي للعراقيين وآليات العملية الانتخابية في قانون الانتخابات وفق الدوائر الجديدة.
لذلك، لا ينبغي مقارنة النتائج بالدورات الانتخابية السابقة. كما يجب على القوى السياسية العراقية أن تعاملهم بطريقة تحافظ على المصلحة العامة، وعلى الجميع احترام قواعد صناديق الاقتراع التي وافقوا عليها.
لا معنى لقبول النتائج إذا كانت في مصلحة تيار معين، ورفضها إذا كانت ضد مصالحهم. لا ينبغي إغفال ضمير الشعب العراقي والتطور السياسي ودور الأجيال الشابة في أي محاولة لفهم نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
إذا أراد الناس التغيير، فلا يجب فهم رسالتهم في إطار نظريات المؤامرة. يجب على أولئك الذين لم يتأهلوا للانتخابات دراسة الوضع بعناية وإيجاد ومعرفة الأسباب الحقيقية، بدلاً من القفز إلى الاستنتاجات وإجراء تحليلات لا أساس لها من الصحة. من الواضح أن تراجع المشاركة في هذه الانتخابات مرتبط بالتغيير.
بمعنى آخر، صوت الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع للقوى التي فازت بشعار التغيير ومحاربة الفساد ورفض هيمنة الميليشيات الخارجة عن سيطرة الدولة. هذا واضح بالنظر إلى الوضع في العراق.
ومن ينفون هذه المعطيات يريدون "تشكيل" تفكير العراقيين والاستجابة لرغبتهم في التغيير دون تقديم بديل لهم. نجحت حكومة الكاظمي في تنظيم انتخابات نزيهة نسبياً والتي جرت بسلاسة ونظمت في المواعيد المعلنة سابقا.
وهذا بحد ذاته خطوة إيجابية مهمة في تنمية العراق وخلق بصيص أمل. وصحيح أيضاً أن نتائج هذه الانتخابات تمثل زلزالاً سياسياً بكل معنى الكلمة. إنهم يعيدون تشكيل الخريطة السياسية العراقية. علاوة على ذلك، تؤكد الهزائم السياسية الكبرى لبعض القيادات والفصائل الشيعية الرسالة التي أعلنها العراقيون منذ عام 2019، فهل سقط عهد الحيتان الكبيرة؟
لكن المشكلة تكمن في رفض بعض القادة الاعتراف بانهيار شعبيتهم. وتشير البيانات الأولية إلى أن الأمور تتجه نحو أزمة خطيرة قد تقود إلى مواجهات مسلحة بين الطرفين.
ومهما كانت نتائج هذه الازمة فمن المؤمل ان يطرح الجميع مصالح الشعب العراقي وآماله في التغيير وظروف معيشية افضل والتخلص من قبضة الميليشيات المتجاوزة على الشعب والحكومة والقانون والمهددة للحمة الوطنية.
ولن تتحقق قوة العراق في بيئته الإقليمية والدولية إلا إذا استعاد هذا البلد العربي العظيم أمنه واستقراره ووحدته الداخلية وسيادته وحريته في اتخاذ قراراته ورسم سياساته.
هناك سيناريوهين محتملين، إما أن ينصاع الصدر لضغوط الواقع العراقي والإقليمي والدولي ويقبل الإنضواء، مرة أخرى، تحت قبة التحالف الشيعي أو الإطار التنسيقي الذي يضم كافة خصومه ومنافسيه ”الشيعية“ دولة القانون والفتح وكتائب حزب الله والفضيلة وعصائب أهل الحق والحكمة والإصلاح وغيرهم، ويساومهم للحصول على النصيب الأكبر من الكعكة الانتخابية واختطاف منصب رئاسة الوزراء منهم أو فرض مرشح تسوية من قبله عليهم، كأن يكون مصطفى الكاظمي نفسه، أو أن ينفرد بالحكم مع حلفاء منتفعين ويفرض الأمر الواقع بقوة السلاح التي ستجابهها حتماً ردة فعل عنيفة ومسلحة أيضاً تحظى بدعم وتأييد إيران. وبوسع الخصوم سحب البساط من تحت أقدام الصدر ومنعه من تشكيل دولة الصدر، وتأليف دولة الموالين وذلك بدمج الفتح ودولة القانون 35+15 مع بعض الأكراد وبعض السنة لتكوين الكتلة البرلمانية الأكبر عدداً، فلعبة التحالفات بين الأطراف الأكبر والأكثر تأثيراً هي الي تحسم مشكلة اختيار رئيس الحكومة القادم، ويفضل الجميع أن يكون توافقياً لذلك ما يزال مصطفى الكاظمي يملك بعض بعض الفرص للبقاء في منصبه لولاية ثانية. وقد يقع الاختيار على شخصية معروفة في الوسط السياسي ليس لها انتماء حزبي واضح وصريح، بالرغم من تداول بعض الأسماء في الكواليس مثل حسن العذاري مستشار الصدر وجعفر محمد باقر الصدر سفير العراق في بريطانيا ونصار الربيعي رئيس كتلة الصدر في البرلمان السابق وحسن الكعبي نائب رئيس البرلمان الحالي والعزي أمين عام مجلس الوزراء وبالطبع مصطفى الكاظمي رئيس مجلس الوزراء المؤقت الحالي لأنه رئيس حكومة تصريف أعمال. المفاوضات محتدمة وعسيرة بين الأطراف المتصارعة تقوم فيها إيران بدور الوسيط وليس الآمر الناهي بغية تخفيف حدة التوتر القائم بين القوى الشيعية ويقوم بهذه الوساطة سفير إيران في بغداد إيرج مسجدي. وهناك تفاهمات مبدئية أخرى موازية تجريها كتلة المستقلين والتشرينيين الفائزين بحوالي 20 إلى 25 مقعد نيابي مع الأكراد والسنة لتأمين العدد اللازم للكتلة البرلمانية الأكبر أو التحول إلى كتلة معارضة برلمانية لأول مرة في تاريخ العراق السياسي ما بعد 2003.
التعليقات