يبدو أن سؤال من هذا القبيل لم يعد مطروحاً بجدية على المستوى الشعبي، فالجواب ربما بات من الأمور المألوفة والمكشوفة، أو لايقبل النقاش والمجادلة كثيراً، لاسيما مع تزايد حدة الصراعات بين القوى السياسية والتي سُرعان ما تُفضح المستور وتُعري لنا حقائق محجوبة للرأي العام لا تشرق أبداً في ظروف السلم ومراحل المجاملات السياسية إلا في آنها وأوانها، أي حينما تتوتر الأجواء وتتفجر الخلافات وتتمظهر خبايا ولاوعي خطاب الأحزاب ومستوراته تجاه بعضهم البعض.

الكل هُنا، في العراق، على علم بأن الدولة وعلى يد الأحزاب المُستقوية بالخارج فقدت الكثير من السيطرة على نفسها وصارت تتحكم بها الآخرون بكل وضوح وعلى المَلَإ، وإن جهات ودول أجنبية، عالمية منها وإقليمية، هي مَن تُحدد لنا مَن يُمثلنا سياسياً بل يصير رغماً على أنوفنا الآمر والناهي بيننا، وهي مَن تُدير من بعيد وقريب شؤون البلاد وصاحبة الكلمة الأخيرة في إحتواء وتوجيه أحداث البلد، كما وهي نفسها أيضاً وراء بلورة الكثير مِن المواقف والصراعات في العملية السياسية وكيفية التعاطي مع القضايا العراقية.

الجميع يعي ذلك تماماً، بل أكثر من ذلك بات يشعر بأن البلد فاقد للسيادة منذ عهود، لاسيما في العهدين الأخيرين اللَذَين شاهدنا فيهما كل شيء إلا ما يُطلق عليه إستقلال القرار السياسي والسيادة الوطنية. فما يتعلق بالأول، معلوم إنه مشررط دوماً بحضور الوعي الوطني الحر القائم على مفهومه المعاصر، أي إحترام المواطنية وهيبة الدولة، وهذا الوعي كان ومازال معدوماً الى يومنا هذا. وغيابه كافٍ لنا لأن نفهم إن القرار السياسي، في عنوانه العريض، سيؤول دوماً الى إستحقاق مسلوب ومُصادَر، بل لن يكون في بغداد أبداً حتى وإن بدا لنا أن صانعوه عراقي المنشأ ومَصّدَره- مكانياً - هو العاصمة بغداد.

الواقع يقول لنا بأن حتى وإن كانت هوية الساسة مشدود ببلد ما، أو أيقونة الوطنية مُزخرفة في شعار الحُكام، إلا إن ذلك لايُضفي، تلقائياً، خاصية الأصالة على القرار السياسي وبعده عن التبعية. المشكلة أكبر بكثير من ذلك، العلة تكمن، قبل أي شيء، في التنشيئة السياسية ومنابعها، التي لم تكن والحالة العراقية، سليمة وطبيعية بالمرة، ولا كانت في يوم من الأيام، مُستمدة من بيئة سياسية حرة تُوَّلد لنا ساسة طبيعيين وذو خُلق وطنية حريصة على التمسك بالمباديء والقيم التي تمنحه إرادة حقيقية في تحقيق كل يمس الوطن ومواطنيه والموقف من شؤون البلد وشجونه من دون الخضوع لأحد.

والتنشئة في ظل أنظمة حُكم تابعة للأجنبي، أو حكومات ديكتاتورية إنقلابية، كما هو الحال مع الحالة العراقية، عادةً ما تكون مشوشة ومشوهة لا محالة، بل لا تُتنج إلا المزيد من العقليات المتزمتة، الطائفية منها والقوموية، أو ظاهرة التبعية والإمتثال للآخر، وذلك كمظاهر وعادات سياسية عادية جداً، بل مُتَبَجَّح بها أحياناً من قبل الكثيرون لتخويف الخصوم من دون الشعور بالخزي والعار!.

ولهذا السبب بالذات لا نرى أن الأمر مُستجد وغريب، لأن المعظلة تبدو أساساً بنيوية وظرفية في آن معاً، ولا حلول لها إلا بقيام ثورة نقدية وفكرية طويلة الأجل، هي ربما غير سانحة، هي الأخرى، لإنعدام شروطها المشدودة بتوفير حرية الضمير والنقد والإعتراض وقيم أخرى عصرية لا نُفقِهها أصلاً أو لا يمكن التفقه فيها، لاسيما في ظل الإرهاب الفكري السائد في البلد وأشباح الإغتيالات والإختطافات والتهديدات المباشرة على حياة كل من يجرؤ على التفكير وبيان الإختلاف وممارسة حقه في الإعتراض على الحالة العراقية المتردية.

أما بالنسبة للسيادة، فحدث ولا حرج!، فهي الأخرى، مفقودة للأسف لحد شعور المرء بإنعدام الدولة، خصوصاً عندما ترى بأم عينك أن عناصر من مخابرات الدول الإقليمية والعالم تصول وتجول في شتى أنحاء البلاد وتزرع خلاياها التجسسية والمخابراتية بالتعاون والتنسيق مع الكثير من الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة، فضلاً عن القواعد العسكرية الأجنبية ودباباتها ومعسكراتها على أراضي البلاد، بل تحشداتها وتحركاتها العسكرية المستمرة بحرية ودون أي إعتراض، وذلك تحت غطاء أو مسوغات تافهة كانت تتعلق دوماً بكل شيء إلا بمصلحة العراق وشعبه.

بمعنى آخر، إن أي تحليل واقعي للأوضاع الراهنة في العراق غالياً ما لا يخرج بشيء سوى معاودة التصادم مع هذه التحديات الخطيرة التي ترتبط بالتنشئة السياسية أولاً وثانياً بغياب الدولة وإنعدام الوعي الوطني والثقافية المواطنية وكل ما يعيد الهيبة الى البلد تجاه مظاهر سياسية مخزية بل مُهلكة للبلاد والعباد منذ عقود وإفساد العراق ومستقبل أبنائه وأجياله.

والمشكلة هي أننا وفي كل مرة نجد أنفسنا أمام التحديات نفسها، تتكرر وتتفاقم دون أدنى إتفاق على الحد منها، خصوصاً حينما يكون الرهان في ظرف ما، لإعادة التنظيم والنهوض بالبلد، متوقفاً على الإرادة الوطنية والتلاحم وضرورة قبول القوى السياسية بالإختلاف والتعددية وتجاوز الخلافات.

ولا تسفير هنا لمكامن مأزق تشكيل الحكومة أيضاً وقَبلِها حسم إنتخاب رئيس الجمهورية والكتلة الأكبر أيضاً إلا بالتحديات عينها، التي تُعزى في وجه من وجوهها الى هيمنة الأجنبي على القرار السياسي وسطوته على النخبة الحاكمة في البلد والأحزاب السياسية، وإستجابة وتفاعل هذه الأخيرة هي أيضاً لمطالب وأملاءآت خارجية لقاء الحصول على مواقع ومناصب أكثر في الدولة لا تُستثمر لأي شيء سوى مزيد من الخضوع للآخر وتحقيق المشاريع الطائفية.