في أوج احتدام المعارك الدائرة بالحرب الروسيّة على أوكرانيا، وفي ظل أكبر تحدّي يواجه أوروبا والعالم بعد شهر على بدء العمليات العسكرية، خرج الرئيس الأميركي جو بايدن ليعلن عن نوع جديد من المواجهة المرتقبة مع الروس، وهي "الهجمات السيبرانية" التي من المتوقع أن تقوم بها موسكو ردًّا على العقوبات الاقتصادية الغير مسبوقة التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها وسائر دول الاتحاد الاوروبي على روسيا.
وعلى الرغم من أنّ بعض المحللين قد قللوا من أهمية الخطر المحدق على هذا الصعيد في الوقت الراهن، إلا أن خبراء أكدوا على ان الحرب السيبرانية لا تقلّ خطورة عن الحرب التقليدية إذ أن الامر لا يتوقف على تعطيل بعض الانظمة لشركات أو مؤسسات والدخول الى بيانات عملائها وحسب، بل التخوّف يكمن في ضرب الانظمة المُشَغِّلة للبنى التحتية كالكهرباء مثلا، لذلك فقد تعهد بايدن بإن إدارته ستواصل استخدام كل أداة لردع الهجمات السيبرانية ضد البنية التحتية الحيوية وتعطيلها وإذا لزم الأمر، الاستجابة لها.
ولكن المُلفت في الأمر بأن الحكومة الأميركية الفيدرالية لا تستطيع الدفاع ضد هذا التهديد بمفردها، حيث أن معظم البنية التحتية الحيوية في أميركا مملوكة ومدارة من قبل القطاع الخاص، وهو ما أكدّه بايدن بنفسه، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام تحوّل المواجهة بين ادارات دول بعينها إلى حرب سيبرانية تقودها شركات "خاصة"، تدور رحاها من خلال المنصات الرقميّة والفضاء الإلكتروني. وهي حرب من نوعٍ جديد قد بدأ العالم يشهدها وقد تصبح أكثر شراسة في المستقبل القريب.
والسؤال الذي يطرح نفسه، تُرى ماذا سيحصل لو تحكمت حفنة من البشر بالسيطرة على الانظمة والشبكات؟ وما هي الكارثة المحتملة فيما لو تمكّن غير العقلاء من الوصول إلى الأنظمة المشَغِّلة لأنظمة الدفاع والأسلحة بما فيها السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل؟
وهل نحن على أبواب حرب "باردة" جديدة قوامها "الردع السيبراني" الى جانب "الردع النووي" الذي اعتمدته الدول الكبرى طيلة المراحل السابقة؟
وعلى الرغم من أن شؤون الدفاع والأمن لا زالت تُنَاقَش من خلال مبدأ "التفريغ السياسي" و"كُتل النفوذ"، فيما أعادت مشاهد الغزو الروسي لأوكرانيا الى الأذهان مشاهد الحرب العالمية الثانية بأدواتها التقليدية؛ فإن هناك حرب أخرى موازية خفيّة لا تقل ضراوة عنها قد تفرض واقعًا مغايرا في المستقبل، حيث ستتحكم شركات الأمن السيبراني بالأمن القومي للدول، كما ستكون الشركات الرقمية العملاقة بمثابة أمبرطوريات متصارعة وهي الحاكم الفعلي للبشر على هذا الكوكب.
وانطلاقا من هذا الإطار بالتحديد يمكننا فهم سعي الرئيس الأميركي الحثيث ومنذ بداية توليه للحكم، التنسيق والاجتماع مع قادة كبريات شركات التكنولوجيا الأميركية، وبحث ما يُعرَف "بالالتزامات العامة" التي تهدف الى اتخاذ تدابير أمنية سريعة في مجال تكنولوجيا المعلومات بالتنسيق التام مع الإدرات "السياسية"، والعمل الحثيث على تدريب القوى العاملة ورصد الميزانيات في هذا المجال.
فالاجتماعات المتكررة التي عقدها مدير الأمن السيبراني الوطني كريس إنغلز، ووزير الأمن الداخلي أليخاندرو مايوركاس مع المدراء التنفيذيون لشركات مايكروسوفت، آبل، أمازون وكبار رؤساء شركات التأمين، جاءت لتكريس ضرورة و"الزامية" تعاون تلك الشركات مع الحكومة الفيدرالية. لا سيما بعد الهجوم السيبراني التي تعرضت له الولايات المتحدة في شهر مايو من العام الفائت، واستهدف خط أنابيب شركة كولونيال، وأدت إلى أزمة وقود في الساحل الشرقي للولايات المتحدة استمرت لعدة أيام، الأمر الذي دفع الحكومة الى وضع قواعد جديدة لمشغلي خطوط الأنابيب، حيث تطلب منهم الإبلاغ عن أي هجمات إلكترونية على أنظمتهم إلى وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية التابعة لوزارة الأمن الداخلي، وتنفيذ وسائل للحماية من الهجمات الإلكترونية المستقبلية.
أخيرا، بالتأكيد فإن ادارات الدول تسعى للتنسيق مع الشركات الرقمية بل والعمل المشترك الجاد في مجال الأمن السيبراني معها، مع إبقاء ذلك تحت مظلة ادارات الحكومات، ولكن الخوف من خروج تلك الشركات عن السيطرة بحيث يصبح الأمن القومي رهينة بأيدي مشغلي الأمن السيبراني.
التعليقات