تشكيل حكومة أغلبية محفوفة بالمخاطر أخطر من الذهاب لتوافق سياسي لا أحد يتبنى الفشل فيه فيما بعد.
أقيمت الانتخابات النيابية في العراق في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر بظروف صعبة وأستثنائية بعد عامين متواصلين من الاحتجاجات والسخط الشعبي الكبير على الطبقة السياسية في العراق، حيث أنتجت هذهِ الانتخابات فوزًا متوقعًا للكتلة الصدرية بواقع 73 مقعدًا نيابيًا ومع تحالف المستقلين بفارق كبير عن أقرب المنافسين حزب تقدم التابع لرئيس مجلس النواب المنتهية ولايته بواقع 37 مقعدًا. وعلى الجانب الآخر شهدت هذهِ الانتخابات تراجعًا مدويًا لتحالف الفتح وخسارة مفاجئة لتحالف قوى الدولة وصعودًا نسبيًا لقوى التغيير والمستقلين.
على هذهِ المعطيات انضوت الفصائل والميليشيات المرتبطة بتحالف الفتح والقوى التي تشاطرها نكبة الخسارة تحت مسمى "الاطار التنسيقي للقوى الشيعية" وصرّحت علنًا بأنها ترفض نتائج الانتخابات معللةً ذلك الرفض بوجود شبهات تزوير وتلاعب بنتائج الانتخابات وهددت ضمنًا بأنها قادرة على الإخلال بموازين الأمن في البلاد فيما لو تم تجاهل اعتراضاتها، اعتراضات توصف بأنها غير ديمقراطية وتسعى للانقلاب على الدولة والنظام حيث لم تستطع القوى الخاسرة حتى اللحظة تقديم طعنًا واحدًا حاسمًا يُشير لوجود تزوير او تلاعب حقيقي واضح في النتائج، بل لجأت لخيار الضغط من خلال الشارع والدفع بأتباعها من المنتسبين في هيئة "الحشد الشعبي" لقطع الطرق وتهديد الدولة ومؤسساتها بوضوح.
إن هذهِ الفصائل قد مارست هذهِ اللعبة سابقًا وتحديدًا في انتخابات 2018 والتي أفرزت فوزًا للتيار الصدري كذلك ولكن بفارق بسيط عن تحالف الفتح آنذاك، وقد صيّر الامر بعد ضغوط شديدة مورست على مقتدى الصدر الى إتفاق على حكومة تحاصصية بقيادة "الفتح-سائرون" دون غالب ولا مغلوب حكومة ضمَّت الجميع وأنتجت رئيسًا دون أبوين، عادل عبدالمهدي والذي ما أكملت حكومته العام حتى اندلعت شرارة ثورة تشرين احتجاجا على جملة من القضايا المفصلية والمتراكمة التي تتعلق بالأمن والخدمات والتنمية والواقع الاقتصادي وسيادة البلد حيث أطاحت هذهِ الثورة لاحقًا بحكومة "الفتح-سائرون" التوافقية بعد سيلٍ من الدماء.
نتائج الانتخابات وخسارة قوى السلاح لن تتسبب بحرب أهلية في العراق على غرار سوريا او ما يحصل الآن في لبنان مثلًا. للبيت ربٌ يحميه هنا، وعرّاب لن يَسمح بنشوب حرب تذهب بهذا النظام نحو الإنهيار وفقدان مكتسبات ما بعد 2003 في الوقت الذي يتعالى فيه السخط الشعبي القائم في المناطق ذات الأغلبية الشيعية من جهة ومن جهة أُخرى تتماسك فيه المكونات الأُخرى وتتحد نسبيًا.
كل ما يحصل من تهديدات وشوشرة هي رسائل إيرانية للضغط على "التيار الصدري" للانخراط بتحالف لا غالب فيه ولا مغلوب ولا طرف معارضة إنما على غرار تحالف 2018 الذي أنتج لنا حكومة توافقية دون جبهة معارضة تحظى الأغلبية بمميزاتها وتتقاسم كعكتها في سياق طبيعي غير خارج عن سياقات المحاصصة الحزبية المتعارف عليها منذ اول عملية انتخابية في العراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين.
يبدو بأن الصدر فهم الرسالة جيدًا وبدأ يتجاوب معها من خلال خفض سقف طموحاته بحكومة أغلبية "قحية" وهذا ما نقرأه جليًا من خلال بياناته وتغريداته الأخيرة ذلك لمعرفته بأن لا طاقة له بتحمل عبئ تشكيل حكومة أغلبية واضحة يتبناها هو وتياره ويتحملون مسؤوليتها ونتاجاتها بظل هذهِ الأجواء المضطربة، هذا فعل لن يُقدم عليه الصدر مطلقًا، كلفة تشكيل حكومة أغلبية محفوفة بالمخاطر أعلى من كلفة الذهاب لتوافق سياسي لا أحد يتبنى الفشل فيه، فالأخير خيارٌ معمول به ولا يتعارض مع السياقات المتعارف عليها.
اما بالنسبة لتصريحات الصدر وتغريداته ما قبل الانتخابات فما هي الا جزء من حملة التحشيد لتياره الذي ورغم كل هذا التحشيد الا انه لم يكن بمستوى الحدث او على الاقل بمستوى 2018، كل الكتل خسرت بما فيها "التيار الصدري" هذا ما تشير له أرقام المفوضية الرسمية مقارنة مع أرقام هذهِ الكتل في انتخابات 2018 جميع الأحزاب تضررت من فعلين الاول المقاطعة الكبيرة والواسعة والثاني التصويت العقابي لهذهِ الأحزاب من قبل المشاركين، اما مقاعد التيار الصدري الكثيرة فهي تحصيل حاصل للتنظيم الدقيق الذي يعتمده في تفاعله السياسي، التنظيم الذي استنفذ كل اوراقه وحينما أتت الفرصة الحاسمة يبدو بأنه سيتنازل عنها كما جرت العادة، لذا لن نشاهد هذا التنظيم متماسك في قادم الانتخابات.
الصدر ما بين محنتين؛ اما الذهاب نحو حكومة أغلبية سياسية يُقصي فيها تحالف الفتح والقوى القريبة من إيران الخاسرة في الانتخابات في خيار أقل ما يُقال عنه أنه مفصلي ومحفوف بالمخاطر مع الاخذ بعين الاعتبار ما ستنتهجه القوى الخاسرة من خيارات غير ديمقراطية خصوصًا وأنها تستمد قوتها بفعل السلاح الذي تمتلكه لا بفعل عدد مقاعدها في البرلمان، او أنه سيرضخ في النهاية لضغوط هذهِ القوى ويتراجع عن خطاب الكتلة الاكبر ورئيس الوزراء الصدري "القحّي" وتقديم رئيس وزراء توافقي على شاكلة عبدالمهدي، وما بين هاتين المحنتين الصدر هو الخاسر الاكبر من هذهِ الانتخابات وأن كان الفائز الفعلي فيها.
أن تسليم مفاتيح الرئاسات الثلاث ماهو الأ أختبار يود فيه الصدر الأيقاع بمخططات الأطار العبثية على حد قوله لعدم تسلم التيار الحكومة المقبلة.
التعليقات