بداية واجبة.. رحل عنا فقيد الامارات والأمتين العربية والاسلامية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشقيقة الحبيبة، طيب الله ثراه وأحسن مثواه وأجزل عطاه، رحل وأبقى إرثاً طيباً مشهوداً من بينه مقولة هي من أعظم المقولات لقائد عربي معاصر: "المواطن أولاً وثانياً وثالثاً".. وسر عظمتها بأنه عمل مع ولي عهده الأمين – وخلف خير سلف- وباقي حكام الامارات الكرام على جعلها واقعاً عاشه ويعيشه وسيعيشه المواطن الاماراتي.. فعظّم الله أجركم وأحسن عزاءكم رئيساً وحكاماً وشعباً شقيقاً عزيزاً علينا نقاسمه أفراحه وأتراحه.

وملاحظة حقّ للأعمى أن يراها وتُسمع من به صمم، لا بد منها قبل أن أصل إلى "قصة محمد بن زايد والبحريني"، وهي ما شهده العالم بالأمس من انتقال سلس للسلطة في الإمارات الذي جاء ليُشكِّل دليلاً جديداً على أن الأنظمة السياسية تنجح وتُثمر حينما تكون انعكاساً صادقاً لتركيبة الشعب وطبيعته، وتتعثر وتُخفق الأنظمة السياسية المفروضة على الشعوب بالقوة، والنابعة من تجارب أجنبية مستوردة، لا تعبر إلا عن ثقافات الآخرين.

وأصل الآن إلى "مسك" مقالي، وعنوانه، ولكن حقّ علي قبلاً أن أخص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، حفظه الله ورعاه، بهذه الكلمة، رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله، قضى خليفة نحبه فغفر الله ذنبه، ووليت الرئاسة وكنت أحق بالسياسة، فاحتسب عند الله أعظم الرزية وأشكر الله على أعظم العطية، ولك من شعب الامارات خالص السمع والطاعة والدعاء بالتوفيق، ومن محبيك ملايين البرية.

سأسرد عليكم قصة واقعية بسندٍ عالي وثقة، جرت منذ أعوام مضت ورواها لي قريب الشخص الرئيسي في القصة – والاثنان من البحرين -، وتتضمن موقفاً نبيلاً كريماً يكاد يكون أقرب إلى الخيال ولم أقف على مثله حتى في مثل "سير أعلام النبلاء" من بطل القصة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، حفظه الله ورعاه، تجاه قريب راوي القصة لي. ويعلم الله بأن هذه القصة منذ سمعتها وهي تبكيني وأدعو فيها كلما تذكرتها لسمو الشيخ الذي ملأ قلبي حباً لكرمه ونخوته وشهامته وكونه قبلاً ابن من فاق حاتم كرماً، والده ووالدنا كريم وحكيم الأمة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه وأدام ذكراه. وقد استأذنت قبل سرد القصة من صاحبها دون ذكر اسمه، وليعذرني سمو الشيخ إن أظهرت ما أعلم بأنه لا يريد من وراءه سوى وجه الله، ولكنني أردت نشر بعض ما خفي من فضائل سموه الكريمة - وهي نفسها إرادة صاحب القصة الممتن والداعي لسموه-، وما خفي منها أعظم وأكرم، وشكره الذي هو شكر لله، وتأكيد بأن حبي له والملايين غيري من داخل وخارج الامارات صادق ومنبعه من كرم أخلاق سموه وصنيعه الذي يشبه "غيمة هارون الرشيد"، أينما سارت سقت ونفعت.

حكى لي قريب صاحب القصة، بأنه منذ أعوام أصيب ابنه بمرض السرطان، واستفحل فيه – حفظ الله الجميع ومن يحبون – وكون الأب من محدودي الدخل ضاقت به الأرض بما رحبت، ومما زاد ضيقه بأنه قام بالتواصل مع أحد المستشفيات في إحدى الدول الأوروبية المشهورة والمتخصصة في علاج السرطان، وأرسل للمستشفى تقارير ابنه الطبية التي تشرح وضعه الحرج، ليرى كم ستكون تكلفة العلاج، فجاءه الرد من المستشفى بتكاليف علاج خيالية لم ولن يكن ليستطع أن يتحملها، فحاول الأب مجبراً وهو من يعرف بين معارفه بأنه عزيز نفس ومتعفف، من الوصول لجهة رسمية أو خيرية – مجبر لأجل ابنه – لأجل الحصول على مساعدة تمكنه من الوصول للمبلغ المطلوب من المستشفى، ولكن كان ما تلقاه من إمكانية المساعدة بين ما لا يرقى لتغطية تكاليف العلاج والسفر والإقامة وبين ما سيتأخر في إجراءات وعامل الوقت مهم، فاشتد حينها على الأب الضيق، فابنه يحتاج لتدخل علاجي سريع نظراً لوضعه الحرج.

وفي هذا الوقت أتت رحمة الله وتغيير الحال كما أحسن وصفه "جلال الدين الرومي": "عندما يتراكم عليك كل شيء إلى نقطة لا تتحمل بعدها أي شيء، احذر أن تستسلم ففي هذه النقطة سيتم تغيير قدرك إلى الأبد".. وقد جاء بداية تغيير القدر للأب وابنه على شكل اتصال هاتفي من قريب له إماراتي، بقصد الاطمئنان على وضع ابنه، فأخبره الأب بصوت متحشرج بين اليأس وعزة النفس بالوضع، وهنا فاجأه قريبه الاماراتي بأن طلب منه أن يحجز أول طيارة ويأتيه مسرعاً إلى مكان إقامته بإمارة أبوظبي، ولكن الأب أبى أن يثقل على قريبه، فأصر عليه دون أن يخبره بتفاصيل أخرى. وبعد أيام سافر الأب والتقى بقريبه، وهناك قال له: "بعد كم يوم مجلس سمو الشيخ محمد بن زايد يستقبل رواده، وما لنا بعد الله غيره". وفي اليوم المقرر ذهب الأب لمجلس سمو الشيخ العامر، واصطف مع رواده حتى وصل لسمو الشيخ وبعد سلامه على سموه، وبفطنة وحكمة الأب القائد سأله: "من وين الأخ؟"، فأجاب سموه: "من البحرين طال عمرك"، وهنا تهللت أسارير سموه وبادره: "من البحرين الغالية، بشرني عن ربعها وربعك؟"، وهنا لم يتمالك نفسه الأب: "كلهم بخير طال عمرك، ولكني واصلك في طلب"، فلم يزد سموه بأن قال: "سم وتم، واستريح أول تقهوى".. وبعد أن خف رواد مجلس سموه العامر حتى يقي خاصته، أشار سموه على الأب أن يقترب ليجلس بجانبه، والتفت للأب قائلاً: "قول ما بخاطرك".. فشرح له الأب وضع ابنه وموضوع العلاج في الخارج والتكاليف، وما إن انتهى حتى بادره سموه وبابتسامته الجميلة المعتادة المطمئنة: "بس هذا، أبشر".. ونادى سموه بعدها أحد خاصته وهمس له في أذنه لدقائق، وبعدها خاطب سموه الأب مودعاً: "عند فلان الترتيب بالكامل وسيخبرك به، وأبغاك تحب لي ولدك وتبشرني بسلامته.. تامر على شي بعد؟"، وهنا بادر الأب سموه والعبرة تخنقه: "سلامتك طال عمرك"، وودع الأب سموه بالدعاء له والثناء على معروف سموه، ورافقه نفس الشخص الذي همس له سمو الشيخ للخارج، وهناك سأل الأب عن بعض بيانته وابنه الشخصية وعن مكان إقامته، فأخبره بأنه يقيم بمنزل قريبه الاماراتي، فأخذ من قريبه العنوان وقال للأب: "سأمر عليكم بعد ساعات قليلة، لأسلمك ما أمر به سموه". وبعد ساعات دق جرس باب دار قريب الأب، وخرج هو والأب فإذا بنفس الرجل على الباب وبيده مظروفان وأعطاهما للأب وقال له: "هذا ظرف فيه بعثة علاجية شاملة التكاليف لابنك على نفقة ديوان سموه، والظرف الآخر من سمو الشيخ لك ولابنك ويسلم عليكم". وهنا لم يتمالك الأب نفسه وبكى واحتضن لا شعورياً الرجل. وعندما ودعاه وحملّاه السلام وجزيل الشكر والثناه والدعاء لسموه، ودخلا الدار فتح الأب الظرف الآخر فإذا به شيك بمبلغ أكبر من التكلفة التي أخبره بها المستشفى بالإضافة لباقي المصاريف! وهنا ذهل الأب من مثل كرم سموه، وبادر قريبه: "زايد ما مات يا ولد العم، والله يطول بعمر الشيخ محمد واخوانه ويحفظ هالديرة الكريمة، ومعروف الشيخ محمد عمري ما راح أنساه". وعاد الأب للبحرين، وبعد أيام سافر وابنه إلى المستشفى في الخارج، ولاقى ما لاقاه وابنه من اهتمام هناك من سفارة الامارات في بلد المستشفى. ومضت فترة العلاج وشفي الابن تماماً من السرطان، وعاد الأب والابن للبحرين سالمين معافين غانمين. واليوم بفضل الله، وفضل سموه الكريم هناك بحريني عاد من الموت ويحيا في أتم صحة وعافية، وأب لم ولن يقدر أن يجازي صنيع معروف سموه. وللعلم تجاوزت في الكثير من تفاصيل القصة لخصوصيتها ولعدم الإطالة أكثر وما فيها أعجب مما ذكر من كرم سموه! والله أجلُّ وأكرم.

ختاماً، لا مثل شاعرية "المتنبي"، أو نثر "الجاحظ"، أو بلاغة "ابن صيفي" تستطيع أن تصف القائد الانسان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، حفظه الله ورعاه، وبالأصالة عن الأب والابن في القصة أعلاه وعن نفسي وغيرهم الكثير ممن ظهر أو خفي كرم ونخوة سموه معهم أقول بخجل المُقصِّر:

خُلِقتَ من صُلبِ زايدٍ فذاً

أنتَ بين الأنامِ حبيبُ

بُدِّلت "النون" فيك "باء"

فالناسُ طينٌ، وأنتَ طِيبُ