إن أكثر اثنين أحرجهما قانون تجريم التطبيع الأخير هما رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لأنه مسح، بجرة قلم، جهودا مضنية لبناء جسور ثقة وتفاهم وتعاون اقتصادي وسياسي مع دول عربية مُطبعة مع إسرائيل، وهي مصر والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين.
والحقيقة أن للمواطن العراقي، ومثله للفلسطيني، أسئلة حائرة تنتظر الإجابة عليها.
فلو كان المتحمس لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني مناضلا وطنيا حقيقيا كرس حياته لتحقيق العدالة والفضيلة، وشريفا لم يسرق ولم يكذب ولم يرتشِ ولم يتخابر مع حكومة أو مخابرات أجنبية لصدقنا أن النواب العراقيين لم يطلبوا من قانون تجريم التطبيع إلا مرضاة الله والشعب الفلسطيني والشعب العراقي بإخلاص ونية حسنة مبرأة من كل مزايدة ونفاق.
وكان يمكن أن يكون إنجازا وطنيا يستحق النوابُ التقدير والإعجاب والامتنان على إقراره لو صدر قبل الضربات الإسرائيلية الموجعة الأخيرة لإيران التي بدأت بسرقة أطنان الوثائق الحساسة من طهران، واغتيال العالم النووي محسن فخري زادة، وعقيد الحرس الثوري حسين صيادئي، في عقر دار الولي الفقيه، ناهيك عن سلسلة الحرائق والانفجارات المثيرة للاستغراب في مؤسسات ومواقع إيرانية أمنية وصناعية حساسة تؤكد وجود اختراق إسرائيلي أمريكي، مع عجز النظام الإيراني على الرد من سوريا أو من جنوب لبنان، سواء مباشرة بقوات حرسه الثوري المتواجدة هناك، أو بمليشيات حزب الله وربع الله وجند الله ورصاص الله وصواريخ الله ومسيرات الله في المدن والقرى والجبال والمغاور السورية المواجهة لإسرائيل.
والحقيقة أن إصدار القانون، بطلب من التيار الصدري، ومسارعة الإطاريين إلى التصويت عليه ليس له معنى سوى رغبة إيران في الرد على عدوها الإسرائيلي ولكن من بعيد لبعيد، بأصوات مجلس نواب دولة مستباحة ضعيفة لا يهش ولا ينش إلا بأمرها.
وتقول رئاسة البرلمان أن "القانون سيطبق من تاريخ تشريعه، وليس بأثر رجعي". يعني أن المطبّعين العراقيين مع المخابرات الإسرائيلية، وزوّار تل أبيب، سراً، من مسؤولين سابقين وحاليين، شيعة وسنة وكرداً، قد بصموا على تجريم التطبيع، وهم في أعماقهم يسخرون من سطحية النظام الإيراني الذي يقاتل إسرائيل في العراق وهو يعلم علم اليقين بأنه لن يزعجها ولن يمس شعرة واحدة من رأسها ما دامت هذه المعارك تظل كلامية وعلى ساحة بعيدة عنها، وليست بالقنابل والصواريخ والمسيرات على حدودها.
شيء آخر. إنها تعلم بأن قانون التجريم الجديد سيمر كما مرت قوانين مشابهة انتهت على الرفوف العالية أو في سلال المهملات، تماما كما فعل مؤتمر قمة الخرطوم 1967 الذي أصدر لاءاته الثلاث، (لا سلام، لا اعتراف، لا مفاوضات مع إسرائيل) ثم لم يمر زمن طويل حتى دخلت مصر والأردن ثم فلسطين ذاتها، وتبعتها أخيرا دولة الإمارات والبحرين والمغرب، في تطبيعٍ علني، وتبعتها دول عربية مهمة ولكن في السر باتفاقات أمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية متينة، كحالة قطر، مثلا، والحبل على الجرار.
ويتأكد الكذب والنفاق في حفلة إصدار قانون التجريم من قول مُشرعيه إنه جاء من أجل "الحفاظ على المباديء الوطنية وثوابت الشعب العراقي في الدفاع عن فلسطين وشعبها والشعوب العربية كافة التي احتلت أراضيها"، وذلك ثلاثة أرباع النواب يتبعون ائتلافاتٍ وكتلا وأحزابا ومليشيات لم تُعرف، منذ أول ظهورها وحتى اليوم، بالحرص على هذه المباديء الوطنية، ولا باحترام هذه الثوابت العراقية في الدفاع عن فلسطين وشعبها.
وفي المحصلة النهائية فإن القانون الجديد، في أحسن أحواله، لن يكون إلا شقيقا آخر لقانون اجتثاث البعث الذي طوروه وجعلوه قانون المساءلة والعدالة الذي استخدم لتغييب خصوم سياسيين معينين، في أوقات معينة، تلميع آخرين مشمولين بالاجتثاث ولكن بعد أن يدفعوا البدل النقدي مقابل إلغاء الأحكام القضائية المبرمة، وفتح أبواب مجلس النواب لهم، ومنحهم حصصا في وزارات المالية والداخلية والخارجية والتعليم والنفط والمواصلات والكهرباء والبنك المركزي، فقط حين تأتي الإشارة من البلاب العالي القابع وراء الحدود.
وبغض النظر عن ردود الأفعال الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية الغاضبة فإن الدول العربية المُطبعة لم تقل رأيها في القانون الجديد، خصوصا تلك التي ضاعفت الحكومة العراقية في السنتين الأخيرتين علاقاتها النفطية والمالية والمائية والسياسية معها، كمصر والأردن وتركيا. ولا أحد يعلم هل ستقوم الحكومة بإلغاء الاتفاقات السابقة أم تلجأ إلى التسويف والمماطلة وانتظار أن يبرد قانون التجريم ويصبح قابلا للتجميد؟.
وأغلب الظن أن المواطن الفلسطيني في رام الله أو غزة أو المخيمات لن يكون غبيا أو غافلا فيصدق بأن الحكام الإيرانيين، وهم الأصحاب الشرعيون للبرلمان العراقي، صادقون، هذه المرة، في وعودهم التي ظل مرشدهم الأعلى الإيراني وكبار مستشاريه ومعاونيه يبشرون بها، وبأنهم عازمون، فعلا، على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ومحو إسرائيل في سبعة أيام.
وحين تحقق له ما أراد، وتمكن، أخيرا، من إقامة الهلال الشيعي الذي وعدنا بجعله قمرا، ووصل إلى شواطيء البحر الأبيض والبحر الأحمر، وأصبح الكيان الإسرائيلي في مرمى صواريخه التي باركها الله ورسوله والإمام الغائب، لم يحقق للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وقبلهم للعراقيين، سوى المزيد من القتل والاغتيال، والتجهيل والتضليل، والتجويع والتفليس وتخريب النفوس والأخلاق والبيوت.
التعليقات