في دولة الإمارات ثقافة مكانية قلّ نظيرها، ثقافة تجذرت في النفوس حتى غدت عقداً متوارثاً أباً عن جد.. ولعل من سمات تلك الثقافة وجود العقلية الديمقراطية التي تأسست على فكر القبيلة بما يحمل من إيجابيات استطاع المؤسس الشيخ زايد – طيب الله ثراه – أن يوظفها لبناء دولة حديثة، ويؤسس للمراحل اللاحقة التي باتت بها دولة الإمارات مساحة مضيئة في العالم، ووجهة يتحدث عنها الجميع، وقطباً مؤثراً في السياسة الإقليمية والدولية.

في أحداث الأيام القريبة الماضية، لم يضطرب المكان بوفاة رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد – يرحمه الله – على الرغم من الحزن الشديد على رحيله، واستطاعت دولة الإمارات أن تتخطى ذلك بانتخاب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيساً للدولة، انطلاقاً من العقلية الديمقراطية المؤصلة في النفوس وفق المتعارف عليه لدى الجميع.

هذا المتعارف عليه هو الأساس في الفكر الديمقراطي، وهو من القيم الإيجابية في فكر القبيلة، فأعضاء المجلس الأعلى لاتحاد الإمارات العربية المتحدة يمثلون الإمارات السبع، وصوت كل منهم يعبّر عن أصوات أهل الإمارة، وعليه فمجموع الأصوات يمثل أصوات أبناء الإمارات كلهم. وكما تعاقد أبناء كل إمارة على التوافق على حاكمها برؤية ديمقراطية مستمدّة من إيجابيات فكر القبيلة، فإن أعضاء المجلس الأعلى تعاقدوا على انتخاب رئيس الدولة، وبالتالي فقد تخطت دولة الإمارات المرحلة العصيبة بهدوء ويسر، لأن العقلية الديمقراطية المكانية قادرة على تجاوز الصعوبات، وبإعلان انتخاب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيساً للدولة، تكون دولة الإمارات قد أخذت مسارها في مرحلة الرئيس الثالث.

السؤال الذي قد يرد إلى الأذهان هو: كيف استطاع الشيخ زايد – طيب الله ثراه – أن يوطّد دعائم العقلية الديمقراطية في المكان؟

بالرجوع إلى مرحلة التأسيس وما قبل التأسيس، نعرف أن المؤسس لم يتخلّ عن قيم الصحراء، ووظفها بأفضل ما يمكن، لتصبح أهم أدوات العصر في دولة حضارية متماسكة جمعت القبائل كلها تحت راية واحدة، ولا نبالغ إن قلنا إن تلك القيم من أهم العوامل التي أدت إلى استكمال المسارات الحضارية والنهضوية في دولة الإمارات، والأساس فيها العمل على الارتقاء بواقع الإنسان ورفاهيته وتلبية احتياجاته ليكون عنصراً فاعلاً في عملية البناء، ويكون أيضاً قريباً من صاحب القرار، وهنا ملمح ديمقراطي آخر مهم، فالمواطن يستطيع الوصول إلى الحاكم بسهولة، لإبداء رأيٍ أو عرض فكرة أو تقديم طلب أو أي شيء آخر.

شمل التحول في فكر المؤسس من الطبيعة القبلية إلى مرحلة الدولة مختلف المجالات، مثل مجالات الإدارة والتعليم والاقتصاد والمجتمع والتنمية وغيرها، كل ذلك يندرج ضمن بوتقة العمل الجماعي، مما جعل "الفردية" تغيب في عقلية الجماعة، ليصبح كل فرد مسؤولاً عما حوله، وهنا ملمح ديمقراطي آخر. ومن الملامح الديمقراطية الأخرى أن الولاء للدولة أخذ موقعه اللافت مكان الولاء للقبيلة، فارتقت مكانة دولة الاتحاد في النفوس، وبات كل إماراتي ينتمي إلى الكيان الأكبر أولاً، ويشعر بمسؤوليته تجاه اسم الوطن قبل أي أمر آخر.

ولعل أهم ممارسة ديمقراطية في فكر المؤسس الشيخ زايد – طيب الله ثراه – وهي ممارسة اتّبعها من أتى بعده، هي قربه من الناس، فالمؤسس عاش بين الناس وفتح مجلسه لهم، وكان ينزل إليهم بكل تواضع يتفقد أحوالهم، وكانت "جولات الخير" سمة بارزة في تاريخ حكمه، وهي من الدروس الديمقراطية التي عرفت بها دولة الإمارات وصدّرتها.

تتحدث النظم الديمقراطية عن كون الشعب أولوية لها، وهذا ما طبقته دولة الإمارات منذ التأسيس، فقد كان للمواطن مكانته الرفيعة لدى المؤسس الشيخ زايد – طيب الله ثراه -، والحقيقة الأشد وضوحاً أن المواطن شغلَ الموقع الأول في تفكيره، ويبدو هذا الأمر في الكثير من أقواله وتصريحاته، ومنها قوله "إن المواطن هو الثروة الحقيقية على هذه الأرض". وزاد على ذلك بتأكيده أن الثروات لم تأتِ إلا من أجل رفع سوية حياة المواطنين، وفي هذا السياق نتذكر قوله: "إن الثروة هي أداة لتحقيق الرخاء والرفاهية للمواطنين، وأنه لا قيمة للمال ما لم يسخر لخدمة الشعب وتوفير الرخاء له".

وتأسيساً على الفكر الديمقراطي الإماراتي الناضج، فقد تمكنت دولة الإمارات من تخطي مسألة الحكومة التقليدية، إلى الحكومة غير التقليدية، وتلك الحكومة غير التقليدية تتداخل مع الإرادة الشعبية في علاقة تبادلية غير مسبوقة، تشتمل على العصف الذهني ومشورات الناس، ليصبح الاختراق أمراً تتميز به دولة الإمارات على مستوى العالم، فدائماً هناك وزارات مستحدثة تواكب التطورات الحضارية العالمية، فمن وزارة السعادة إلى وزارة الذكاء الاصطناعي.. وغيرهما من الوزارات، كل ذلك لم يكن مفاجأة للداخل الإماراتي لأنه اعتاد الاختراقات ونهج غير المألوف من حكومته، بل كان مفاجأة للعالم، وبدأت دول أخرى تستفيد من التجربة الإماراتية في تطوير أداء حكوماتها.

العقلية الديمقراطية الإماراتية قضت بالتغيير المتواصل على مفهوم الركود، وصار التغيير نحو الأفضل أسلوباً تتفرد به دولة الإمارات، وأزيح مفهوم الركود من قاموسها، وترسخت فيها قيم الدولة الحضارية التي ثبّتها المؤسسون وقوّى دعائمها اللاحقون، مستندين على مفاهيم ديمقراطية، ما كان لها أن تأخذ مكانتها لولا الثقافة المكانية التي تتقبل كل ما هو إيجابي وترفض كل ما هو سلبي، فالقناعات تزداد متانة يوماً بعد يوم بأن الإدارة الواعية حققت للشعب أكثر ممّا كان يطمح إليه، وسوف تستمر بالإنجازات لأنها تستمد قوتها من ذلك الشعب ومن إرادة التغيير الناضج الذي مسح شيئاً اسمه "المستحيل" من لغة تعاملاته في صناعة الحضارة.