كان واضحاً منذ الحوار الشهير للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما مع مجلة " أتلانتيك " الذي أعلن فيه، قبل سنوات، انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط وتفرغها لمحور دول المحيط الهادي، كان واضحاً لكل مراقب أن ذلك القرار خطئاً استراتيجيا كلف الولايات المتحدة الكثير. وها نحن نرى اليوم العودة الاضطرارية للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط مجدداً على وقع أحداث جيوسياسية كثيرة وارتبطت بملفات كثيرة شملت الطاقة، والأمن ،والمشروع النووي الإيراني، وغير ذلك من الملفات.
فالشرق الأوسط الذي ظل موقعاً استراتيجياً لخطوط الطاقة الحيوية هو كذلك مكان تضمن ثلاث ملفات عالمية كانت ولاتزال تشكل محوراً للاهتمام العالمي، ونعني بذلك ملف: القضية الفلسطينية، والنفط، والمشروع النووي الإيراني. فهذه الملفات التي لا تنفصل عن بعضها هي ملفات قابلة للتفاعل مع كل الأحداث الجيوسياسية التي تنعكس في أحوال العالم المعاصر.
وحين أطلت الحرب الروسية الأوكرانية برأسها، منذ 24 فبراير الماضي، جاءت لتؤكد هذه الحقيقة، حيث أدت تلك الحرب إلى خلط أوراق كثيرة في حسابات الولايات المتحدة، ولاسيما في سياسات الحزب الديمقراطي الذين يتولى السلطة اليوم في البيت الأبيض، فلا سياسات الحزب حول العودة إلى الاتفاق النووي المعطوب الذي وقعه أوباما ومجموعة القوى الدولية (5+1) في العام 2015 أجدت نفعاً مع تداعيات تلك الحرب، ولا قدرة الولايات المتحدة على ضخ مخزونها الاستراتيجي من النفط أجدى نفعاً كذلك، ليجد الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه أمام حقائق الواقع التي يتعين عليه التعامل معها لضمان أمن خطوط الطاقة التي لا يمكن ضمانه إلا عبر العودة إلى الاهتمام بالشرق الأوسط في استراتيجية الولايات المتحدة والتعامل مع ملفاته الثلاثة المذكورة تعاملاً يعالجها ضمن حزمة واحدة لأن التشابك بين هذه الملفات وتفاعلها مع بعضها هو على نحو بالغ التعقيد.
لذلك كله، تمثل قمة (مؤتمر جدة للأمن والتنمية) الذي انتهت فعالياته بوم أمس وضم، إلى الولايات المتحدة وقادة دول الخليج، كلاً من قادة: مصر والأردن والعراق؛ فرصة جديدة لعودة الولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط وايلاء اهتمامها بملفاته تلك. وهذه العودة الجديدة للولايات المتحدة بإعادة اعتبارها للشرق الأوسط تقتضي في الوقت نفسه جديةً حقيقية منها بملفات هذه المنطقة والبعد عن استثمار مفهوم الفوضى الخلاقة الذي خلط الأوراق وأدى إلى تضرر مصالح الولايات المتحدة ذاتها على المدى القريب. كما تعني عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط: إدراكها لعدم الاستغناء مطلقاً عن أهم حليف لها في المنطقة أي المملكة العربية السعودية التي اصبحت اليوم رقماً إقليمياً وعالمياً يحسب له حسابات واقعية. فالمملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز اليوم ليست هي كما كانت بالـأمس، حيث أن كل التقديرات الدولية اليوم تؤكد قدرة المملكة العربية السعودية على ضبط إيقاع منطقة الشرق الأوسط بما تتوفر عليه من رصيد وأوراق قوة وسياسات، سواءً من حيث القدرة الاقتصادية عبر إمدادات الطاقة أو القدرة الجيوسياسية عبر دورها المحوري بين دول المنطقة ورمزية وجودها في الإقليم.
إن ما تيقن منه راسمو السياسات في الولايات المتحدة اليوم – خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية - هو أن منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً الدور المحوري للمملكة العربية السعودية في هذه المنطقة أمر لا بد من التعامل معه بحكمة وإدراك وتقدير، بعيداً عن سياسات الإملاء. فما ينطوي عليه دور المملكة اليوم عبر سياساتها بات واضح الأهمية ودالاً أكثر من أي وقت مضى على أن المملكة اليوم قوة اقليمية ودولية تدرك تماماً كيف تعيد الاعتبار في أولوياتها السياسية والاستراتيجية في المنطقة والاقليم والعالم، وكان ذلك واضحاً في كلمة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حين قال: "إن مستقبل الطاقة يتطلب تبني رؤية واضحة للأولويات لتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار وترتكز على الاحترام المتبادل بين دول المنطقة وتوثق أواصر ثقافية واجتماعية مشتركة، ومجابهة التحديات الأمنية والسياسية نحو تحقيق تنمية اقتصادية شاملة."
لقد كانت أهم محاور قمة (مؤتمر جدة للأمن والتنمية) التأكيد على تشابك المصالح في تلك الملفات الثلاثة للشرق الأوسط: الطاقة والأمن وحل الدولتين إنهاءً للصراع المزمن بين الفلسطينيين والإسرائيليين على ضوء المبادرة العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية ببيروت قبل عشرين عاماً في 2002.
وبعيداً عن التكهنات بما يسمى بالناتو العربي ضد إيران بحيث تكون اسرائيل جزءاً منه، كانت تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في المؤتمر الصحفي عقب انتهاء قمة (مؤتمر جدة للأمن والتنمية)ً قد وضعت النقاط على الحروف حين قال الأمير: "لا يوجد شيء اسمه ناتو عربي وهو غير مطروح".
إن قمة جدة للأمن والتنمية كما هو ظاهر من عنوانها نرجو أن تكون بداية سليمة للولايات المتحدة من أجل الحفاظ على الأمن ثم التنمية في هذه المنطقة التي هي أحوج مناطق العالم إليهما، وذلك لن يتأتى إلا برسم سياسات جادة في التعاون بين دول المنطقة والولايات المتحدة عبر تحديد أصول المشكلات المانعة من جدوى الأمن والتنمية وحلها من خلال سياسات جادة.
لقد أوضحت الحرب الروسية الأوكرانية بأن تشابك مصالح دول المنطقة والعالم في ظل التعقيدات التي يشهدها العالم في ملفات الأمن والطاقة والغذاء تحتاج إلى رؤى عقلانية وتدابير استراتيجية يحب أن تعتمد على الدولة الوازنة والأكثر تأهيلاً للاضطلاع بدور رسم سياسات الاستقرار في المنطقة العربية وهي المملكة العربية السعودية. فأن تأتي أمريكا متأخرة للشرق الأوسط خير من أن لا تأتي أبداً.