لم تكن المذبحة التي دارت في المنطقة الخضراء في الأسبوع الماضي بين قادة البيت الشيعي الإيراني المنقسمين إلى صدريين وإطاريين سوى واحدةٍ من سلسلة معارك متواصلة دائرةٌ بينهم منذ سنوات، مُعلَنة حينا، ومستترةً حينا أخر، وحسب الظروف.
ويبرر كل فريق منهما خصومته مع شقيقه بالدفاع عن الحق والطائفة والدين، ثم يجعل قتلاه شهداء ولهم الجنة، وقتلى خصمه خونة ولهم النار.
وبالمناسبة، هذه ليست جديدة على سكان بلاد الرافدين. فهم ابتداءً من سومر وبابل، ثم الفتح الإسلامي للعراق وبلاد فارس، ففاجعة الطف المريعة في كربلاء، فالدولة العباسية، فالتتار، وانتهاءً بمجزرة العائلة الملكية 1958، قد اشتُهروا بأنهم أكثر شعوب المنطقة ازدحاما بجنائز المقتولين الذين يتساقطون بالجملة في المعارك الوطنية والمذهبية والقومية والدينية والعشائرية المتعددة.
وفي العصر الحديث تعوّدنا، منذ سقوط الحكم الملكي وحتى اليوم، على أن تُبالغ كل حكومة بتكريم أمواتها وإسكانهم الجنة وسقيهم بأنهارها ولبنها وعسلها، وبحورها العين، وتكفير قتلى خصومها ونعتهم بالخارجين على القانون والعدالة والوطن والدين.
ثم حين تسقط، بانقلاب عسكري أو مدني أو طائفي، وينتصر عليها معارضوها تتغير المعادلة، فيصبح شهداؤها هم الخونةَ الخارجين على القانون والوطن والدين، وقتلى الذين كانوا يعارضونها ثم انتصروا عليها هم الشهداءَ المرحومين المكرمين.
ولكن، ووفق المقاييس الشرعية والقانونية والعرفية، لا تستحق إلا قلةٌ من المقتولين في جميع العهود والعصور لقب الشهادة بجدارة، أما الكثرةُ منهم فمُلحقة، جهلا، أو غصبا، بقوافل الشهداء وما هم بشهداء، لأنهم قُتلوا وهم مسيَّرون لا مخيرون، يسوقهم إلى الموت وجيه ليزداد وجـاهة، أو قويٌ ليزداد قوة، أو ثريٌ ليزداد ثراءً، أو حاكم فاجر ليزداد ظلما وفجورا وسفالة.
لكأنَّ واحِدَهم رصاصة بندقية لا تعرف متى تُطلق، ولا على مَن، ولا لماذا، فتصيبُ أحداً بمقتل، ثم تموت، أو حجارة يرميها صبيٌّ على كلب ينبح عليه أو على عصفور ليصيده.
ووفق هذه النظرية يكون قتلى الحروب الطائفية والعنصرية والحزبية والعشائرية، بأوامر إمام أو رئيس حزب أو شيخ قبيلة أو مخابرات أجنبية، أمواتا قَتَلوا أنفسَهم انتحارا، قبل أوانِها، لحساب من لا يستحق من دمهم قطرة واحدة.
ولأن الموت صار سُنةً مستحبَّة في العراق الديمقراطي الجديد فقد طلب واحدٌ من أصحاب العمائم السود الكبيرة من وزارة التربية العراقية إدراج تدريس (الشهادة) في مناهجها الدراسية كافة.
تخيلوا، رجل دين يُفترض أنه موكَّل بنشر ثقافة الإلفة والمودّة والأخوة والسلام وحقن دماء المسلمين يريد أن يعلم الناشئين كيف يموتون، لا كيف يعيشون.
هذا مع العلم بأن وزارة التربية والتعليم تشجع، منذ سنوات، أو تتغاضى، بعبارة أصح، عن جيوشٍ مُجيَّشةٍ من مُعلميها الغارقين في الجهل والعصبية الطائفية والعنصرية، وتتركهم يلوّثون قلوب الأطفال، قبل عقولهم، بالخرافات والأساطير والقصص المزورة الملفقة.
ثم تُنفق القناطير المقنطرة من المال على طباعة أطنان من الكتب والكراريس، وتوزعها على مدارس العراق، وكان الأجدرُ بها أن تُحرق، ويُحاكم مؤلفها وناشرها، لأنها سموم قاتلة أخطر وألعَنُ ألف مرة من المخدّرات التي تأتينا من الأرجنتين.
ولكن الحكومة ليست وحدها التي تتحمل مسؤولية مسلسل الموت العراقي المستديم، بل تتقاسمها معها الأحزابُ والمدارس والجامعات والصحافة ومنظمات المجتمع المدني، بسبب سكوتها وتواطئها مع السياسيين الماكرين الماهرين في استثمار غباء الأغبياء، وجهل الجهلاء، وغفلة المغفلين.
بعكس ما يحدث في الدول التي تحترم نفسها وشعوبها التي يكون أهمُ أولوياتها الحفاظُ على حياة مُواطنها، أيّ مواطن، صغيرا كان أو كبيرا، غنيا أو فقيرا، من أيّ عرق، وأيّة طائفة وأي دين.
وكثيرا ما رأينا حكومات هذه الدول، حين يحدث لواحدٍ من رعاياها مكروه في أيّة بقعة من العالم، كيف تهبّ لنجدته بكل ما لديها من علاقات دبلوماسية واقتصادية، وحتى عسكرية إذا لزم الأمر، لضمان سلامته، ولكي يعود إلى وطنه وأهله بسلام.
وهنا نصل إلى مربط فرس هذه المقالة. ففي سجلات حكوماتنا العراقية المتعاقبة، منذ 2003 وحتى اليوم، مئاتُ الآلاف من موتى أدخلتهم أحزابهم ومليشياتهم في قوائم الشهداء.
ولو دققنا في هوياتهم وتواريخ اغتيالهم أو شنقهم أو إعدامهم رميا بالرصاص، منذ 2004 وحتى اليوم، لوجدنا أن ثلاثة أرباعهم ضحايا جارنا الإيراني المسلم الشقيق، إما بكواتم ضباطه السرّيين الإيرانيين الداخلين إلى العراق بدون علم الحكومة، أو برصاص وكلائه الولائيين وصواريخهم ومسيَّراتهم ومفخخاتهم التي لا ترحم.
ولأن لنا في كل عام ثورةً أو انتفاضة من أجل الحرية والكرامة ولقمة العيش، فإن عشراتٍ من شبابنا، وأحيانا مئات، يتساقطون اغتيالا أو اختطافا أو اعتقالا، لأنهم هتفوا بحرقة، (إيران بره بره)، ثم تُسجل كل هذه الجرائم ضد مجهول.
بعبارة أوضح. إن الشعب العراقي المُصمم على الخلاص من الاحتلال يدفع الثمن الباهظ لحريته بالتقسيط، ثم لا يتوقف القتل والاغتيال، ولا يخرج الاحتلال.
فماذا لو هب الشعب العراقي، كلُه، بعماله وفلاحيه، بأطبائه ومهندسيه وضباطه وجنوده، بعلمائه ومفكريه وشعرائه وفنانيه، مرة واحدة، وخاض معركة المصير مع الشقيقة إيران، وأصر على أن ينتصر عليها وعلى وكلائها أو يموت، ودفع ثمن استقلاله دَفعة واحدة، أيا كان مقدارُها، ألن يستجيب القدر؟. ثم هل سيكون في مقدور حرسها الثوري ومليشياتها أن تقتل الشعب العراقي كله لتبقى؟. أشك في ذلك.
التعليقات