دق الرئيس الفلسطيني محمود عباس من خلال خطابه الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة المسمار الأخير في نعش اتفاقية أوسلو، والتي كانت بمثابة فخ نصبته إسرائيل لمنظمة التحرير الفلسطينية ولمشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، والذي أجهض لمرات عديدة، بعد أن أثبت نهج كل الحكومات المتعاقبة داخل الدولة العبرية على مضى 3 عقود، أن أصحاب القرار في دولة الاحتلال يسيرون عكس التيار الذي رسمته خارطة طريق أوسلو 1 و َ2 في سبيل اتفاق سلام مع الفلسطينيين، وان صح القول يمكن وصف الاتفاق بمجرد عبث أمريكي بأكثر الصراعات المعقدة في التاريخ الحديث، اذ افرز الاتفاق نتائجا تصب في مصلحة إسرائيل فقط، كما كبل منظمة التحرير بمجموعة من الالتزامات جعلتها تتكبد النكسات تلوى الأخرى، في حين أن الطرف الإسرائيلي تجاوز كل الخطوط الحمراء ولم يكن ملزما بتحقيق بند واحد من الالتزامات التي تفضي الى حل الدولتين.
وبعد ان غابت الحلول طيلة 29 سنة وانهارت كل الجهود في احياء عمليات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتوالت الحروب وجميع أشكال التصعيد، خرج لابيد كأول أول رئيس وزراء إسرائيلي ليتحدث عن حل الدولتين مجددا، معتبرا أن ذلك هو الشيء الصحيح لأمن إسرائيل، ولاقتصادها ومستقبل أبناءها ومؤكدا أن الشرط الوحيد هو قيام دولة سلمية لا تهدد امن دولة إسرائيل، ولكن حديث لابيد عن هذا الحل أتى فارغا في محتواه ولم يقدم أية خطوات فعلية في هذا السياق، و لم يتوجه للسلطة الفلسطينية بأية دعوة للجلوس على طاولة المفاوضات مجددا، ولم يتكلم عن تصور إسرائيل لحل الدولتين في ظل وجود انقسام داخل البيت الفلسطيني نفسه، ولم يتكلم عن إعادة تفعيل بنود اتفاقية أوسلو التي اخترقتها اسرائيل بالشكل الذي قضى تماما على اتفاق السلام وحل الدولتين، كل هذا وأكثر يؤكد أن لابيد استغل منبر الأمم المتحدة ليغازل الإدارة الأمريكية ويعزف على ايقاعات بايدن الذي يتبنى نفس الحل، وهو على مقربة من معركة انتخابية ضد أحد أشد المعارضين لحل الدولتين وهنا أقصد بنيامين نتنياهو، كما أن وضعه الحالي كرئيس وزراء مؤقت في حكومة انتقالية بقي لها من الزمن اقل من شهرين، يؤكد أن كلام الرجل عبارة عن دعاية انتخابية موجهة ضد خصمه أكثر من كونها موجهة للفلسطينيين أساسا، وهو ما دفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى التعقيب عن كلام لابيد بتقديم دلائل بأن إسرائيل تسير عكس ما ينوي لابيد أن يوهم به المجتمع الدولي، ولم تبقي للفلسطينيين أي فرصة لإقامة دولتهم بعد أن التهم الاستيطان المزيد من الأراضي الفلسطينية قبل وبعد اتفاق أوسلو وضاعف من عدد المستوطنين 5 مرات حسب الاحصائيات الرسمية، كما تغاضى عن إقامة عشرات البؤر الاستيطانية العشوائية في الضفة وهو دليل واضح أن الحكومات المتعاقبة بما فيها حكومة لابيد التي أعطت رخصا لمستوطنات رعوية في المنطقة ج، قد أفرغت اتفاق أوسلو من محتواه وجعلت الحديث عن قيام دولة فلسطينية ضحكا على الذقون .
وعلى فرض ان إسرائيل قد تفكر يوما ما في تبني حل الدولتين: فهل ستسمح لدولة فلسطين بتسليح عناصرها الأمنية بعيدا عن أعينها؟ وهل ستفك الارتباط ببروتوكول باريس فيما يخص التجارة والنظام المصرفي والجمركة؟ وهل ستسمح للفلسطينيين بإدارة مطاراتهم من دون أن يكون لها هاجس أمني؟ وهل سيتم تطبيق قرار مجلس الامن 242 وتسليم القدس الشرقية للفلسطينيين لإقامة عاصمتهم عليها؟ وهل سيكون هنالك تواصل بري بين الضفة وغزة مرورا بإسرائيل؟ وماذا عن المكون العربي من ذوي الأصول الفلسطينية في دولة إسرائيل؟ هل سيتم اسقاط الجنسية الإسرائيلية عنهم أم سيترك لهم الخيار في اختيار انتمائهم وجنسيتهم؟... لا أظن أن إسرائيل قد تفكر بحلول ترضى الفلسطينيين على حساب امنها القومي، ولا يمكن الوصول الى حل دولتين من دون أن تقدم إسرائيل جميع الخصائص التي تقوم عليها دولة مستقلة وذات سيادة غير كاملة، والا فان مشروع الدولة سيسقط وسيصبح الحديث عن ‘’كانتونة‘’ على شاكلة كانتونات سويسرا، تخضع لحكم ذاتي محدود على مقاس إسرائيل، وهو ما يعوض حل الدولة الواحدة الذي لا ترى إسرائيل غيره بديلا في حقيقة الأمر.
ان الحديث على حل الدولتين في ظل الأوضاع الميدانية الراهنة مجرد كلام فارغ لا يمكنه أن يتجسد على أرض الواقع، ما دامت إسرائيل في الأساس تعمل عكس ذلك وتثبت أنها ماضية في خططها الاستيطانية وفي تغيير التركيبة السكانية للقدس، كما أن القدس هي بيت القصيد، اذ لا يمكن أن تتشارك دولتان في عاصمة واحدة تتخللها جدران اسمنتية فاصلة أنشأت لتعزيز أمن إسرائيل وتكريس سياسة فصل عنصري ذي أبعاد دينية، ولا ننسى أيضا أن البيت الفلسطيني في حد ذاته مقسم ويحكم بحكومتين، ترى فيها حكومة غزة أنه لا يمكن الاعتراف بإسرائيل وتؤمن بفكرة تحرير كل شبر من فلسطين، من هنا ندرك تمام الادراك أن أطروحة لابيد بعيدة كل البعد عن الواقعية، بل حتى أن صاحبها بالذات يقطن في بيت يعود لعائلة فلسطينية من أيام نكبة 48 .