غطت تصريحات قيس سعيد حول ضرورة حماية بلاده من المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء على الملفات الداخلية والأزمة السياسية والاقتصادية التي تشدها البلاد معطية فرصة للنظام فرصة لتشتيت الرأي العام واقحامه في مسائل ثانوية في خضم معركة سياسية شرسة بين السلطة والمعارضة تهدد مسار الديمقراطية واستقلال القضاء بعد مرور عقد ونيف على ثورة الياسمين، تلك الثورة التي أطلقها الشجعان وسرقها "اخوان تونس" ليجعلوا التوانسة يتحسرون على أيام بن علي.

خلّف سقوط جماهيرية القذافي الافريقية موجة نزوح كبيرة للأفارقة المقيمين في ليبيا نحو تونس على إثر الحرب الأهلية التي اندلعت والتي هددت مصير الآلاف منهم بعد أن تم اتهام العديد منهم بالوقوف ضد ثورة الشعب والعمل كمرتزقة لنظام القذافي، الأمر الذي استدعى تدخل مفوضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين الي دراسة ملفات العديد من المتواجدين في مخيم "الشوشة" في صحراء تونس ثم إعادة توطين عدد معتبر منهم في بلدان غربية مثل النرويج والسويد وأستراليا وكندا وألمانيا، وترحيل عدد كبير أيضا منهم الى بلدانهم الأصلية التي لا تتواجد في وضع أمني يهدد حياتهم، كما طالبت السلطات التونسية بتوفير برامج ادماج للاجئين المتبقيين في تونس، ولكن المعنيين بالبرنامج أي الأفارقة رفضوا ذلك التوطين احتجوا في مرات عديدة أمام مقرات الداخلية والبرلمان والمجلس التأسيسي بل أعلنوا اضرابا عن الطعام في 28 مارس/آذار من سنة 2013 احتجاجا على "الادماج القسري لهم في تونس" وعبروا بوضوح أن تونس لا تشكل بالنسبة لهم سوى منطقة عبور الى الضفة الأخرى من المتوسط وأن رفض مفوضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين لتوطينهم في دول غربية عمّق من معاناتهم في تونس وأّجّل خروجهم منها.

الحديث عن موضوع الأفارقة في تونس تحديدا موضوع قديم ولكن الجديد فيه اليوم هو ذلك التوظيف السياسي الذي لجأ له قيس سعيد بعد أن بعثرت أوراقه في الشأن الداخلي وبعد أن أضحت البلاد تتجه بخطوات تابته نحو السيناريو اللبناني "في شقه الاقتصادي" وكأن قيس سعيد اختار هذا الوقت بالذات لتوظيف "ملف اللاجئين" ليعرض خدماته على الدول الأوروبية واغلاق أحد طرق عبور الأفارقة الى أوروبا مقابل مكاسب اقتصادية وسياسية ربما قد تفي بالغرض في ظل هذا التخبط التام الذي تسير فيه الدولة التونسية، والمفارقة أن قيس سعيد يفتح ملف "حماية تونس من اللاجئين" في الوقت الذي تشهد فيه السياسة الخارجية الفرنسية معارك سياسية شرسة مع الأنظمة الافريقية التي يأتي منها غالبية هؤلاء المهاجرين، وهو ما يعزز فرضية أن قيس سعيد قد دفع لهذا الموضوع تحديدا لممارسة ضغط على الدول الافريقية التي تعالت فيها الأصوات المطالبة بالخلاص من الهيمنة الفرنسية وسرقة افريقيا باسم الديمقراطية والفرنكوفونية والارث الاستعماري القديم.

إذا كان شباب تونس المتمتع بكامل الحقوق المدنية يسعى للهروب منها بشتى الطرق والوسائل، فكيف لتونس أن تتحول الى "إلدورادو" الأفارقة؟، وكيف لقيس سعيّد وهو الخبير في النصوص القانونية والدساتير أن ينبه التوانسة بالمخطط الغربي الذي يسعى الى اغراق تونس بالأفارقة، وهو يعلم أن التقصير في تطبيق النصوص والمواد القانونية المتعلقة بدخول الأجانب ووضعيتهم في البلاد هو أساس المشكلة، وهنا نطرح تساؤلا مهما: لماذا اختار قيس الدخول في أزمة سياسية جديدة مع الدول الافريقية التي يأتي منها هؤلاء اللاجئون، بدل ان يعترف بأن الخلل هو التقصير في تطبيق القانون والتقصير في حماية الحدود ضد شبكات الهجرة الغير نظامية؟

اليوم وبعد أن علق البنك الدولي تعامله مع تونس على خلفية أعمال عنف بعد تصريحات قيس سعيّد بشأن المهاجرين، ينبغي على حاكم قصر قرطاج أن يعالج هذه المشكلة الجديدة التي وضع تونس فيها بسبب سوء معالجته لملف "الأفارقة" لا أن يخرج بخطاب جديد يستعمل فيه "أسطوانة المؤامرة الخارجية" بل عليه أيضا أن يدرك حجم الخطأ الذي رهن به شراكات تونس الاقتصادية ورأس المال التونسي في البلدان الافريقية التي أحست بالإهانة بعد كل ما حدث لرعاياها المقيمين بصفة شرعية وغير شرعية على البلاد التونسية... سيكون المستثمر التونسي غير مرغوب فيه في افريقيا وسترتد العنصرية التي قوبل بها الأفارقة في تونس حتى الى رياضة كرة القدم، عندما سيصيح تنقل المنتخب التونسي الى ادغال افريقيا مهمة خطرة.

ملف الأفارقة وأفريقيا واحد من الملفات الثقيلة التي سيتركها قيس سعيد أمام حاكم قرطاج القادم والذي سيجد نفسه مجبرا على تفكيك الألغام التي زرعها قيس سعيد في ملفات الخارجية التونسية أينما اتجهت، والخلاصة أن السيرة الذاتية الحسنة والسمعة الطيبة والتعاطف الشعبي لا تكفي لتجعل من المرأ رئيسا ناجحا للبلاد.